أنْ تتطلَّبها مِن المُتنادين إلى سياستها وصيانة حُرماتها ومُرافقها فوق الأرض ، وإلاَّ فإنَّ الأُمَّة إلى هدر إمكاناتها ، وزعزعة كيانها ، والتفريط في حاجاتها المُلحَّة إلى وحدتها وانسياقها نحو التحقيق ، فإذا كان مُعاوية هو المُتمادي في سلبها حقوقها ، فإنَّ هذه المبادئ هي التي تبقى مِن حَقِّ الأجيال إذ يستيقظ بها الوعي ، فتعمَّد إلى الحاكم تطلبه أنْ يتحلَّى بها ، ليكون نبرة مُثقَّفة مِن نبراتها في صدق وعيها.
ولكنَّ مُعاوية الذي كان إفرازاً لمُخطَّط مُعيَّن النهج ـ ولا أتورع عن القول ـ مُعيَّن الحِقد ، ومُعيَّن الضمير ، فإنَّه بقي رحى الطاحونة ذاتها ، أمَّا أنْ يصدق في تعهُّده بأنْ يترك الخلافة مِن بعده للحسن ، فإنَّه ما عَدِم وسيلةً مِن حذفه مِن الوجود ، وبذلك يكون صادقاً بتعهُّده ، وتُصبِح الخلافة ذاتها ، بدلاً مِن أنْ تنتقل مِن بعده إلى الحسن ، تنتقل ـ بالأحرى ـ إلى ابنه يزيد ، وبذلك يلتقي الاثنان في تضحية واحدة : تضحية الحسن بمركز الخلافة مِن أجل مصلحة الأُمَّة ، وتضحية مُعاوية بالحسن مِن أجل مصلحة الخلافة التي هي الآن ليزيد.
ـ ١٣ ـ
أمَّا الحسين الذي كان وحده في البيت أسير التأمُّل. فإنَّه ما وصله الناعي ليفجعه بخبر مَقتل أخيه الحسن بجُرعة سَمٍّ مدسوسة في كوب مِن اللبن ، حتَّى شَعر بحِدَّة مزَّقت نفسه ، وفجَّرت فيها زوبعة ما حبلت بمثلها بعد مطاوي الأُفق التي تلفُّ الأرض!
لقد هبَّ بأجمعه يُفتِّش عن أخيه!!! فارتطم بأبيه مذبوحاً مِن خاصرته!!! فولَّى عينيه إلى الجانب الآخر ... فاصطدم رأسه بولولة تحملها حوملة مِن حوملات الريح ... وما كاد يَحدق بها ، حتَّى رآها ترتجف بالخمار الذي كانت ترتديه فاطمة أُمُّه ، وهي تخفق بيديها في باحة المسجد!!! فخرَّ إلى الأرض ورأسه لا يزال يضرب سقف البيت ... وإذا به يسمع قهقهات قِردَة ترقص على مزمار فَهْدٍ يعوي كأنَّه ممسوخ مِن كلبٍ ... فاختلط عليه المَشهد ، وإذا به يلمح زاوية خلف زاوية