وإذا كان الحديث ينصّ على أنّ مَن أخلص للّه أربعين صباحاً انفجرت ينابيعُ الحكمة من قلبه على لسانه ؛ إذنْ فما ظَنّك بمَن أخلص للّه سبحانه طيلة عُمره ، وهو مُتخلٍّ عن كُلِّ رذيلة ، ومُتحلٍّ بكُلِّ فضيلة ، فهل يبقى إلاّ أنْ تكون ذاته المُقدّسة متجلّية بأنوار العلوم والفضائل ، وإلاّ أنْ يكون علمه تحقّقاً لا تعلّقاً؟!
وبعد ذلك فما أوشك أنْ يكون علمه وجدانيّاً وإنْ برع في البرهنة وتنسيق القياس ، ومن هنا جاء المأثور عن المعصومين عليهمالسلام : «إنّ العبّاس بن علي زُقَّ العِلمُ زقّاً» (١).
وهذا من أبدع التشبيه والاستعارة ؛ فإنّ الزقَّ يُستعمل في تغذية الطائر فرخه حين لم يقوَ على الغذاء بنفسه ، وحيث استعمل الإمام عليهالسلام ـ وهو العارف بأساليب الكلام ـ هذه اللفظة هنا ، نعرف أنّ أبا الفضل عليهالسلام كان محلَّ القابليّة لتلقِّي العلوم والمعارف مُنذ كان طفلاً ورضيعاً ، كما هو كذلك بلا ريب.
فلم يكن أبو الفضل بِدْعَاً من أهل هذا البيت الطّاهر الذي حوى العلم المُتدفّق مُنذ الصغر ، كما شهد بذلك أعداؤهم ، ففي الحديث عن الصادق عليهالسلام :
«إنّ رجلاً مرّ بعثمان بن عفان وهو قاعد على باب المسجد ، فسأله ، فأمر له بخمسة دراهم ، فقال له الرجل : أرشدني. قال عثمان : دونك الفتية الذين تراهم ، وأومأ بيده إلى ناحيةٍ من المسجد فيها الحسن والحسين وعبد اللّه بن جعفر ، فمضى الرجل نحوهم وسألهم ، فقال له الحسنُ : يا هذا ، المسألةُ لا تحلُّ إلاّ في ثلاث : دمٍ مُفجع ، أو دَينٍ مُقرح ، أو فقرٍ مُدقع. أيّتُها تسأل؟ فقال : في واحدة
__________________
(١) أسرار الشهادة / ٣٢٤.