في عين فليس للحس إلا قضية في عين ، وكذلك إذا رأى مائعا وقد شربه فسكر لم يحكم بأن جنس هذا المائع مسكر ، فإن الحس لم يدرك إلا شربا وسكرا عقيبه وذلك في شراب معيّن مشار إليه. والحكم الثاني هو حكم العقل بواسطة الحس وبتكرر الإحساس مرة بعد أخرى إذا المرة الواحدة لا تحصل العلم فمن تألم له موضع فصبّ عليه مائعا فزال لم يحصل له علم بأنه مزيل بل هو كما لو قرأ عليه سورة الإخلاص مرة فزال. إذ قد يخطر بباله أن زواله كان بالاتفاق ، فإذا تكرر زواله مرات كثيرة حصل له العلم. وكذا لو جرب قراءة سورة الإخلاص مثلا على المرض الأول وكان يزول كل مرة أو في الأكثر يحصل له يقين بأنه مزيل كما حصل اليقين بأن الخبز مزيل للجوع والتراب غير مزيل له بل زائد فيه. وإذا تأملت هذا القن حق التأمل عرفت أن العقل نال هذه بعد الإحساس والتكرر بواسطة قياس خفي ارتسم فيه ، ولم يثبت شعوره بذلك القياس لأنه لم يلتفت إليه ولم يشكله بلفظه. وكان العقل يقول لو لم يكن هذا السبب يقتضيه لما اطّرد في الأكثر ، ولو كان بالاتفاق لتخلف. فإن الإنسان يأكل الخبز فيتألم رأسه ويزول جوعه فيقضي على الخبز بأنه مشبع وليس بمؤلم لفرق بينهما وهو أن الإيلام يحمله على سبب آخر اتفق اقترانه بالخبز ، إذ لو كان بالخبز لكان دائما مع الخبز أو في الأكثر كالشبع. وهذا الأمر يحرك أصلا عظيما في معنى تلازم الأسباب والمسببات والتعبير عنها باطراد العادات ، وأن ذلك ما حقيقته. وقد ذكرنا في كتاب تهافت الفلاسفة ما ينبّه عن غوره. والمقصود أن القضايا التجريبية زائدة على الحسية ومن لم يمعن في تجربة الأمور تعوزه جملة من القضايا العينية فيتعذر عليه درك ما يلزم منها من النتائج ، ولذلك نرى أقواما يتفردون بعلم ويستبعده آخرون لجهلهم بمقدماته التي لا تحصل إلا بالتجربة ، وهذا كما أن الأعمى والأصم يعوز جملة من العلوم النظرية التي تستنتج من مقدمات محسوسة ولا يفرق الأعمى قط باليقين البرهاني ، أن شكل الشمس مثل شكل الأرض أو أكبر منها ، فإنها تعرف بأدلة هندسية تبنى على مقدمات مستفادة من البصر وكثير من العلوم النفيسة لا يتنقص العقل مقدماتها إلا