المُقدَّمةُ
ليست قليلة الكتابات والبحوث التي كُتبت في تاريخ الفرق والمذاهب الإسلامية ، منذ أوائل القرن الرابع ، حيث ظهرت أول التصانيف في هذا الموضوع ، وحتىٰ يومنا هذا. غير أن القليل منها بل النادر هو الذي احتوىٰ جهداً تحقيقيّاً جادّاً ، يُخضع للتحقيق العلمي حتى القضايا المشهورة والتي أخذت طريقها إلىٰ سائر ما كُتب في هذا الباب وكأنها ثوابت تاريخية لا نقاش فيها. إذ درجت سائر الكتابات على اعتماد أقوال الكثير من المتقدّمين ، من مؤرخين ومتكلّمين على أنها الحقائق النهائية في موضوع البحث ، بحجّة قول المؤرّخ أو المتكلّم الموثّق في قضايا اُخرىٰ دخلت في إطار تخصّصه. لكن كم من أمر مشهور وقضية استمرّ التعامل معها على أنها مسلّمة قد أثبت التحقيق في أصلها وعرضها على الأسئلة الجادّة أنها قضية لا أصل لها ، وأن الحقيقة في الأمر شيء آخر لم يأخذ نصيبه من الشهرة ولا حظّه في التداول ؟
وفي تاريخ نشأة المذاهب العيقيدية الإسلامية تواجهنا هذه الحقيقة في مواضع متعدّدة ، وجدير بنا أن نتوقّع ذلك منذ الوهلة الأولىٰ ، فالتاريخ تاريخ مذاهب وفرق عاشت في ما بينها فترات طويلة ، وربّما متّصلة من النزاعات والخلافات التي تبلغ ذروتها أحياناً في حروب طاحنة ، وتقف أحياناً أخرىٰ عند مستوى التكفير والتفسيق والقذف بشتىٰ ألوان التُّهم والطعون. ومن ناحية اُخرىٰ فان الكتّاب الذين كتبوا في تواريخها هم كتّاب ينتمون سلفاً إلى إحداها ، ويتعصّبون لها ، ويذبُّون عنها ، ويصوبون مقولاتها ، ويقفون موقفاً سلبياً إزاء سائر الفرق الأخرىٰ التي تختلف معها في مقولاتها ، أو في تاريخها السياسي ، أو في الاثنين معاً. فكيف لا نتوقّع غياب الروح الموضوعية والانصاف في أحوال كهذه ؟
إنّ السبيل الوحيد للخروج من هذه الاشكالية هو اعتماد التجرّد والموضوعية والحياد في قراءة التاريخ ، لوضع كل شيء في محلّه ، واعطاء كلٍّ نصيبه ، ووضع كل قضية في إطارها الموضوعي الصحيح ، دون مزايدة أو تنقيص.
إنّ السجال والصراع العقائديين اللذين اتّسما بالعنف والخشونة غالباً في القرن الأول والثاني من الهجرة قد أفرزا الشيء الكثير مما ينبغي إعادة النظر فيه بروح موضوعية متجرّدة من دواعي ذلك النزاع ، لا سيّما مع ما ينبغي أن يكون تأثّره بتلك الأجواء