مصيره .. والقيامة ليست تجعل الحق حقّا فهي المحقّة ، لأنّ الحق والباطل شيئان واقعيان لا تصنعهما الأحداث ، إنّما دورها الكشف عنه ، وسوق النفوس إلى التسليم له ، حيث تنسف بأحداثها المريعة كل الحجب عن قلبه وعينه ليرى الحق ، كما قلنا في معنى يوم التغابن ، فإنّه ليس بيوم يتغابن فيه الناس ، وإنّما يكشف عنه ، ويؤكد ربّنا عظمة القيامة وهذه الصفة منها إذ يقول :
(مَا الْحَاقَّةُ)
إنّها أمر عظيم ماديّا ، حيث الوقائع الكونية المهولة ، ومعنويا بآثارها في النفوس ـ كل النفوس ـ وكيف لا ترهب الإنسان الضعيف تلك الأحداث الفظيعة التي أشفقت منها السموات والأرض ، وكيف لا يخشى وهو يلاقي ربه ، ويرى عمله ، ويمضي إلى مصيره الأبدي؟!
إنّ الحاقة ليست كلمة تقال ، فهذه الحروف عنوان لأمر عظيم ، تزلزل به الأرض ، وتمور السماء ، وتسجّر البحار ، وتتلاشى الجبال ، و(تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى وَلكِنَّ عَذابَ اللهِ شَدِيدٌ). وتساؤل القرآن ب «ما» يأتي في سياق التعظيم والتذكير والتحذير والإلفات ، ولا يقف عند ذلك بل يضيف :
(وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ)
وهذه الآية تفيد التعظيم ، كما تبيّن أنّ أحدا لا يدرك حقيقة القيامة ، وقد يعلم بعض المجملات عنها : بأنّها حق ، وأنّ من أحداثها زلزلة الأرض ، وحشر الناس ، ودكّ الجبال ، ولكنّه لا يعلم ميقاتها ، كما لا يملك أدوات يتمكّن بها وعي أحداثها العظيمة.