تبت وإمّا رحلت ، فقال : يا محمّد بل تجعل لساير قريش شيئا ممّا في يديك فقد ذهبت بنو هاشم بمكرمة العرب والعجم ، فقال النبي : ليس ذلك إلي ، ذلك إلى الله تبارك وتعالى ، فقال : يا محمد قلبي ما يتابعني على التوبة ولكن أرحل عنك ، فدعا براحلته فركبها فلمّا صار بظهر المدينة أتته جندلة (أي حجرة) فرضّت هامته ثم أتى الوحي إلى النبي (ص) فقال : الآيات الاولى من سورة المعارج (١).
(سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ)
وسؤال السائل يكشف ليس عن شك في وعد الله عزّ وجلّ وحسب ، بل يكشف أيضا حالة من الاستهزاء والتحدي دعته إليهما الثقافة الجاهلية التي جاءت الرسالة لتحرير الإنسان منها ، كما دعته إليهما الضغائن الدفينة على الرسول والرسالة.
والآية الكريمة ـ كسائر آيات القرآن ـ أوسع من حادثة تاريخية ، أو مصداق واحد بذاته ، بل هي شاملة لكلّ موقف استهزاء بالحق ، وتكذيب به. ولا يصف ربّ العزة عظمة العذاب ومدى هوله ، بل يؤكّد واقعيته فيقول : «واقع» ، وذلك يهدينا إلى حقيقة فطرية وعقلية لا يتردّد في قبولها أحد وهي أنّ جهل الإنسان بالحقائق القائمة في الواقع ، أو تجاهله بها (تكذيبه) لا يغيّر من أمرها شيئا. أترى أنّ عقيدة الوجوديين الذين زعموا بأنّ الوجود خيال يتراءى للإنسان كالسراب أعدمت الوجود أو غيّرت من الواقع شيئا؟ هل ينفي عدم رؤية الأعمى لما حوله وجوده؟ كلّا .. وإذا قلنا أنّ كلمة «واقع» تدل على الماضي فإنّها تأتي هنا للتأكيد من حيث أنّه حتمي لا شك فيه ولا تردّد في وقوعه ، لأنّ الله قد قدّره وقضاه تقديرا حتما وقضاء مبرما.
__________________
(١) المصدر / ص ٤١٢ ذكره أبو عبيدة والثعلبي والنقاش وسفيان بن عيينة ، وأشار إليه الرازي والنيسابوري ، ونقل القرطبي نص الرواية في تفسيره والحسكاني في شواهد التنزيل.