فلما ورد على أمه في التابوت شرعت في عمل الوليمة ، وهيأت المآكل والمطاعم ونادت : لا يحضر الوليمة إلا من لا فجع في الدنيا بمحبوب ولا خليل ؛ فلم يحضر الوليمة أحد. فقالت : ما بال الناس لا يحضرون الوليمة؟ قالوا : أنت منعتهم من الحضور. قالت : كيف ذلك؟ قيل لها : قد أمرت أن لا يحضرها من فقد محبوبا ولا من فجع بخليل ، وليس في الناس أحد إلا وقد أصيب بذلك مرارا. فلما سمعت بذلك خف ما بها من الحزن وتسلت بعض تسلية وقالت : رحم الله ولدي لقد عزاني بأحسن تعزية ، وسلاني بألطف تسلية. يا هذا أين القرون الأول والأخر؟ أين من ملك وقهر؟ أين من حشد وحشر؟ أين من أمر وزجر وخرب آخرته ، ودنياه عمر ، وأمن الموت المنتظر ، هل كان له من الموت مفر؟ فلما جاءه المنون (٥٤١) بالأمر الأمر حطه من القصور إلى الحفر ، وعوضه عن الحرير بالمدر ، وسلط عليه الدود إلى أن اضمحل واندثر ، ولم يبق منه عين ولا أثر إلا ذل وفتر ، ووهن وخور ، وعنف على ذنبه المحتقر ، ونبئ بما قدم وأخر من العجر والبجر.
تبني وتجمع والآثار تندرس |
|
وتأمل اللّبث والأرواح تختلس |
ذا اللب فكّر فما في الخلد من طمع |
|
لا بد أن ينتهي أمر وينعكس |
أين الملوك وملّاك الملوك ، وم ، |
|
كانوا إذا الناس قاموا هيبة جلسوا |
ومن سيوفهم في كل معركة |
|
تخشى ، ودونهم الحجّاب والحرس |
أصمّهم حدث وضمّهم جدث |
|
باتوا وهم جثث في الرمس قد حبسوا |
أضحوا بمهلكة في وسط معركة |
|
صرعى ، وماشي الورى من فوقهم نطس |
كأنهم قطّ ما كانوا وما خلقوا |
|
ومات ذكرهم بين الورى ونسوا |
والله لو شاهدت عيناك ما صنعت |
|
يد البلاء بهم والدود تفترس |
__________________
(٥٤١) المنون : الموت (لسان العرب ، مادة منن).