وكان تقدّم منه قبل هذه الرسالة كتاب آخر إليّ ، بعث به إلى تلمسان ، فتأخّر وصوله ، حتى بعث به الأخ يحيى عند وفادته على السّلطان ، ونصّ الكتاب :
يا سيدي إجلالا واعتدادا ، وأخي ودّا واعتقادا ، ومحلّ ولدي شفقة سكنت منّي فؤادا. طال علي انقطاع أنبائك ، واختفاء أخبارك ، فرجوت إن تبلّغ النية هذا المكتوب إليك ، وتخترق به الموانع دونك ، وإن كنت في مباثتك كالعاطش الذي لا يروى ، والآكل الذي لا يشبع ، شأن من تجاوز الحدود الطبيعية ، والعوائد المألوفة ؛ فأنا الآن ـ بعد إنهاء التحيّة المطلوّلة الروض بماء الدموع ، وتقرير الشّوق اللّزيم ، (١) وشكوى البعاد الأليم ، وسؤال إناحة القرب قبل الفوت من الله ميسّر العسير ، ومقرّب البعيد ، ـ أسأل عن أحوالك سؤال أبعد الناس مجالا في مجال (٢) الخلوص لك ، وأشدّهم حرصا على اتصال سعادتك ؛ وقد اتصل بي في هذه الأيام ما جرى به القدر من تنويع الحال لديك ، واستقرارك ببسكرة محلّ الغبطة بك ، باللجأ إلى تلك الرّياسة الزّكية ، الكريمة الأب ، الشّهيرة الفضل ، المعروفة القدر على البعد ؛ حرسها الله ملجأ للفضلاء ، ومخيّما لرجال العلياء ، ومهبّا لطيب الثناء ، بحوله وقوّته ؛ وما كلّ وقت تتاح فيه السلامة ؛ فاحمدوا الله على الخلاص ، وقاربوا (٣) في معاملة الآمال ، وضنّوا (٤) بتلك الذات الفاضلة عن المشاقّ ، وابخلوا بها عن المتالف ، فمطلوب الحريص على الدّنيا خسيس ، والموانع الحافّة جمّة ، والحاصل حسرة ، وبأقلّ السّعي تحصل حالة العافية ، والعاقل لا يستنكحه الاستغراق فيما آخره الموت ، إنّما ينال منه الضّروريّ ، ومثلك لا يعجزه ـ مع التماس العافية ـ أضعاف ما يزجّي (٥) به العمر من المأكل والمشرب ، وحسبنا الله.
__________________
(١) اللزيم : الكثير اللزوم.
(٢) المحال (بالكسر) : التدبير ، وعلى رواية «مجال» يكون المجال الأول. (مصدرا) ، والمجال الثاني : مكان الجولان.
(٣) اقتصدوا ، واتركوا الغلوّ.
(٤) ضنوا : ابخلوا.
(٥) يزجّي : يتبلغ بالقوت القليل ، ويجتزئ به.