القاهرة في أول ذي القعدة من السّنة نفسها. وفي منتصف رمضان سنة ٧٨٩ غادر مرسى الطور ، على الجانب الشرقي من بحر السويس متّجها إلى الديار المقدّسة لقضاء فريضة الحجّ ، عبر ميناء ينبع ، وفي ثاني ذي الحجة وصل إلى مكّة ، فقضى فريضة الحج ، وعاد إلى مصر عبر ينبع الميناء ، ومرّ بساحل القصير ، ومدينة قوص (قاعدة الصّعيد). ووصل إلى القاهرة في شهر جمادى الأولى من سنة ٧٩٠ ه. وفي سنة ٨٠٢ سافر إلى بلاد الشام حاجا إلى بيت المقدس. ولعلّه لم يكن ليخطر في باله أن يعود مرّة أخرى إلى هذه البلاد بالطّريقة التي تمّت بها. ففي سنة ٨٠٣ شدّ الرّحال إلى الشام في ركاب الجيش المتهيّئ للمدافعة عنها في وجه تيمور لنك وجيشه. فوصل إلى غزّة ومنها إلى دمشق.
وبعد فترة عصيبة قضاها في دمشق ، عاد إلى مصر عبر غزّة فوصلها في شعبان من سنة ٨٠٣ ه ، بعد أن شهد حادثا تاريخيا دراماتيكيا سيكون له أبلغ الأثر على المشرق العربي برمّته ، ألا وهو سقوط دمشق في يد التّتار واحتلالها والتنكيل بأهلها كما سنعرض لاحقا.
والواقع أن سيرة ابن خلدون في المشرق العربي ، كما يتّضح في هذا الكتاب ، تنطوي على شيء غير قليل من الالتباس في بعض جوانبها ، ولا يطمح تحقيق ابن تاويت لهذا الكتاب إلى رفع الالتباس عن هذه السّيرة ، بمقدار ما يحاول أن يكون أمينا لرواية ابن خلدون لسيرته الذاتية ، ودقيقا ما استطاع في تخريج يوميّات رحلته بين مغرب العالم الإسلامي ومشرقه.
على أن الفرق والاختلاف بين رواية ابن خلدون وروايات آخرين للوقائع نفسها ، إنما نجد نموذجا له في واقعة لقاء ابن خلدون بتيمور لنك. فالمؤرّخ الذي وصل إلى دمشق الشام سنة ٨٠٣ قادما من مصر في صحبة السلطان الملك الناصر فرج في عهد الخليفة العباسي المتوكّل على الله ، كان وسلطانه يسابقان التّتار إليها ، وحين دخلها السلطان ضرب خيامه وأبنيته بساحة قبّة يلبغا. وحسب رواية ابن خلدون فقد يئس تيمور لنك من اقتحام المدينة ، وظلّ الطّرفان في حالة استعداد وترقّب ورصد أكثر من شهر. تجاول العسكران خلالها ثلاث مرات أو أربع ، من دون أن تكون الغلبة لطرف ، لكنّ خبرا جاء من مصر عن وقوع فتنة هناك جعل الملك النّاصر ينسحب من المدينة