بعسكره ، ويسارع إلى مصر للحفاظ على ملكه ، تاركا دمشق تحت الحصار.
وإذا كانت واقعة سقوط هذه المدينة العظيمة تحت سيوف التّتار هي واحدة من الوقائع الأكثر شؤما في تاريخها ، لما شهدته خلال ذلك من فظائع تقشعرّ لها الأبدان ، فإنّ هذه المصادفة ستشكّل علامة فارقة في حياة ابن خلدون. ولعلّ هذا العلامة الكبير ما كان ليخطر في باله يوما أن يلعب دور الوسيط بين المدينة وتيمور لنك الذي نصب خيمته تحت أسوارها وضرب الحصار عليها ، فدافعت المدينة عن نفسها متّحدة إلى أن بدأت بوادر الفرقة تدبّ بسبب خلاف بين القلعة المدافعة عنها وبعض القضاة الذين يئسوا من إمكان استمرار المدينة في الصمود ، إثر انسحاب السلطان الناصر فرج منها ، وخافوا على أنفسهم وعلى رعاياهم من مذبحة لا تبقي أحدا في دمشق ، فآثروا تسليم المدينة. لكنّ أهل القلعة رفضوا الاستسلام لتيمور لنك وعساكره وقرّروا مواصلة الدفاع.
هنا يبرز دور ابن خلدون الذي طلب من القضاة الذين اجتمعوا في مدرسة العادلية ، وشكّلوا بحضوره وفدا للقاء تيمور ، وبحث صيغة الاستسلام ، أن يساعدوه على الخروج معهم. وبالفعل ، فإنّ ابن خلدون سيتدلّى من السور ويخرج من المدينة المحاصرة بعد عودة الوفد من اللقاء الأول له مع تيمور. رأس الوفد القاضي برهان الدين بن إبراهيم بن محمد بن مفلح ، وكان يجيد إلى جانب اللغة العربية ، اللغتين التركية والفارسية.
يذكر ابن خلدون في يوميّاته عن هذه المحنة أنه خلال اللقاء الذي دار بين القضاة الدمشقيين وتيمور سأل الأخير عن ابن خلدون بالاسم ، وما إذا كان فرّ مع الفارّين إلى القاهرة أم بقي في المدينة؟ فقيل له : لا ، لم يخرج ، وهو موجود في المدرسة العادليّة حيث يقيم. ويذكر ابن خلدون أن تيمور أحسن لقاء الوفد ، وكتب له الرّقاع بالأمان ، وردّ أعضاءه إلى المدينة بوعود وآمال عراض ، إذا ما أمكنهم إقناع المدافعين بالكفّ عن الأعمال الحربيّة وفتح الأبواب لجيشه.
في تلك الليلة بات ابن خلدون على أهبة الخروج للقاء تيمور لنك ، ولما علم المدافعون عن المدينة بأخبار الوفد والمفاوضات دارت سجالات واسعة بين الدّاعين إلى الصّمود والقتال ، وبين القائلين بالاستسلام. ووقعت شجارات يذكر المؤرخ أحدها