المجاز ، (١) واتصال الأرض ببلاد المشرق ، طرقته الأفكار ، وزعزعت صبره رياح الخواطر ، وتذكّر إشراف العمر على التّمام ، وعواقب الاستغراق ، وسيرة الفضلاء عند شمول البياض ، فغلبته حال شديدة هزمت التّعشق (٢) بالشمل الجميع ، والوطن المليح ، والجاه الكبير ، والسّلطان القليل النظير ، وعمل بمقتضى قوله : «موتوا قبل أن تموتوا». (٣) فإن صحّت هذه الحال المرجوّ من إمداد الله ، تنقّلت الأقدام إلى أمام ، وقوي التّعلق بعروة الله الوثقى ، وإن وقع العجز ، وافتضح العزم ، فالله يعاملنا بلطفه.
وهذا المرتكب مرام صعب ، لكن سهّله عليّ أمور : منها أن الانصراف لما لم يكن منه بدّ ، لم يتعين على غير هذه الصورة ، إذ كان عندكم من باب المحال. ومنها أن مولاي لو سمح لي في غرض الانصراف ، لم تكن لي قدرة على موقف وداعه ، لا والله! ولكان الموت أسبق إلي ، وكفى بهذه الوسيلة الحبّية ـ التي يعرفها ـ وسيلة. ومنها حرصي على أن يظهر صدق دعواي فيما كنت أهتف به ، وأظنّ أنّي لا أصدق. ومنها اغتنام المفارقة في زمن الأمان ، والهدنة الطويلة ، والاستغناء ، إذ كان الانصراف المفروض ضروريا قبيحا في غير هذه الحال. ومنها ـ وهو أقوى الأعذار ـ أنني مهما لم أطق تمام هذا الأمر ، أو ضاق ذرعي به ، لعجز ، أو مرض ، أو خوف طريق ، أو نفاد زاد ، أو شوق غالب ، رجعت رجوع الأب الشفيق ، إلى الولد البرّ الرّضي ، إذ لم أخلّف ورائي مانعا من الرجوع ، من قول قبيح أو فعل ، بل خلّفت الوسائل المرعية ، والآثار الخالدة ، والسّير الجميلة ، وانصرفت بقصد شريف فقت به أشياخي ، وكبار وطني ، وأهل طوري ، وتركتكم على أتمّ ما أرضاه ، مثنيا عليكم ،
__________________
(١) يريد : الميناء الذي يجاز منه إلى المغرب من الأندلس ؛ وهو جبل طارق.
(٢) التعشق : اللزوم للشيء من غير مفارقة.
(٣) في «المقاصد الحسنة» للسخاوي ص ٢٠٦ ، و «التخريجات المختصرة» لأبي الحسن بن ناصر الدين (نسخة نور عثمانية رقم ٧١٧) ورقة ٨٦ ظ ، و «موضوعات» على القاري ص ٨٧ ـ كلهم نقلا عن ابن حجر العسقلاني : «أنه حديث غير ثابت» ؛ وأضاف على القاري قوله : «قلت : هو من كلام الصوفية ، والمعنى : موتوا اختيارا قبل أن تموتوا اضطرارا ؛ والمقصود بالموت الاختياري : ترك الشهوات ، وما يترتّب عليها من الزلات والغفلات».