هذه المرّة أو في غيرها ، وأنا أذهب وأهيئ أمري ، وأذهب في خدمتك ، فأذن له في الذّهاب إلى مصر ، وأن يستصحب معه من شاء.».
أيّ الروايتين هي الأصح؟
بصرف النظر عن الجواب فإنّ الفصل المتعلّق بلقاء تيمور لنك يعتبر وثيقة تاريخيّة مهمّة ، يمكن قراءتها في مستويات عدّة ، ففي جانب من النصّ تتجلّى لغة ابن خلدون الموضوعيّة الخالية من أي مبالغة ، والبعيدة عن الحماسة ؛ لغة تقرير ورصد وإخبار. وعلى رغم أنها أقرب إلى سرديّات أدب الرحلة منها إلى الدرس والتحليل العلمي الذي طبع آثار ابن خلدون كعالم اجتماع ومؤرخ ، فإنّ ما يسرده في رحلته عن هذا اللقاء يترك المجال واسعا ، وبحرّية كبيرة ، أمام التكهّن والتحليل والقراءة المعاصرة. فهو لم يصمت عمّا وسم شخصه من خضوع خلال اللقاء ، ولا هو سكت عن محاولته استمالة تيمور لنك عن طريق الخطاب والهديّة. ففي خطابه زيغ ومواربة وتدليس واستعمال للخرافة لم يعهد عنه في كتاباته أو في نظرته إلى الأشياء ، لا سيّما عند ما يمثّل ابن خلدون الشوق للقاء من كتبت له الأقدار أن يلتقي به ، على حدّ تعبيره. أما الهديّة : المصحف ، والسجّادة والقصيدة وعلب الحلوى التي أهداها لتيمور ، فهي توحي بما هو أكثر من تصرّف الخائف من طاغية ، وبما قد يعتبر تحيّة وترحابا. إنها في تلك اللحظة العصيبة بالنّسبة إلى مدينة محاصرة فعلة غريبة شيئا ما من عالم هو قاض وفقيه ومؤرّخ له مكانته في ديار الإسلام ، لا سيّما بإزاء ما قام به ، وما كان يتوقّع أن يقوم به سفّاح يطوّق مدينة ويتأهّب للانقضاض عليها كتيمور لنك.
هنا في هذا النصّ القيّم ، في ما يعكسه من أحوال شخصيّة لعالم كبير ، في برهة غير شخصيّة أبدا ، وما يحمله من دلالات استثنائيّة في حركة الكاتب والمثقّف باتجاه الغازي العدوّ ، يمكننا أن نقف على نموذج في سلوك المثقّف ، لا نغامر في إطلاق توصيف جازم في رخاوته ، لكنّنا ندعو ، أقلّه ، إلى التأمّل فيه ، في سياق الضرورة القائلة بأهمية إعادة النظر والبحث في جذور الأشياء لفهم ظواهر حديثة تتعلّق بموقف المثقّف من الطاغية أكان أهليا أم غريما خارجيا وعدوا غازيا له سمعة كتلك التي أسبغتها على تيمور لنك أعماله الوحشيّة بحقّ الإنسان والمدنيّة في التّاريخ.