إنّ ما يضاعف من قوة المفارقة في سلوك ابن خلدون خلال ذلك اللقاء التاريخي في دمشق ، أنه عالم مستنير رصد البعد المتحضّر في سلوك الناس والمجتمعات!
لكن هل يجوز محاكمة مواضعات الماضي بلغة الحاضر؟ على الأرجح لا. وما رحلة ابن خلدون ويوميّاته التي هي بمثابة ترجمة ذاتية ومذكّرات حافلة بالأحداث والوثائق والإشارات المتعلّقة بعالم كبير ، غير شهادة على عصر سادته الحروب وهيمنت عليه أعمال الطّغاة بصفتها فتوحات ؛ وأعمالا مشروعة لأقوياء يغيّرون مجرى التّاريخ. وقد يأسرون ضيوفهم الأسرى بخصالهم العجيبة وشخصيّاتهم المتألّهة ، فيصبحون ملك أيديهم!
VIII
بذل محمد بن تاويت الطنجي جهودا غير عاديّة في تحقيق هذا الكتاب وفق منهج صارم ألزم نفسه به. وهو كما أوضح في شرحه لمنهجه : «كان البحث عن أصول الكتاب المخطوطة ، وصلتها بالمؤلف من أولى خطوات تحقيق هذا المنهج ، والذي أقصده بهذه الصّلة ، أن تكون النسخة مخطوطة المؤلف ، أو مقروءة عليه تحمل دليلا على هذه القراءة ، أو مكتوبة عن نسخته مباشرة أو بواسطة معارضة عليها إلخ ...».
استطاع المحقق خلال عمله في فهرسة المخطوطات بين القاهرة واستنبول العثور على مخطوطتين للرحلة ، يقول : «أخطأت عين الزمان ـ وهو الحديد البصر ـ نسختين من هذا الكتاب ، كلتاهما كانت نسخة المؤلف ، وحفظت المكتبات المختلفة نسخا عديدة منه ومختلفة ، وبفضل ذلك استطعت أن أخرج الكتاب.».
إحدى النّسخ الكاملة التي اعتمد ابن تاويت عليها في تحقيق الرّحلة أرشده إليها البروفيسور التركي المقيم اليوم في ألمانيا فؤاد سيزكين ، ويصفه ب «تلميذ نجيب» ، ويشكره على ما أسدى إليه من خدمة بإرشاده إلى هذه النسخة بقوله : «لا أحب أن أنسى أن الفضل في الالتفات إلى هذه النسخة يعود إلى الصديق الكريم العالم التركي الشاب فؤاد سزكين ، فله خالص شكري.». ويرجّح ابن تاويت «أن أحدا لم يعرف أنّها النّسخة الكاملة من هذا الكتاب ..». ويجدر هنا أن نذكر أن سيزكين المقيم اليوم في ألمانيا ، يعتبر عالما حجّة في الأدب الجغرافي ، وله فضل كبير على