فرحلتهم معي إلى أن نزلنا عليه بضاحية قسنطينة ، ومعه صاحبها الأمير إبراهيم بن السّلطان أبي العبّاس بمخيمه ، وفي عسكره فحضرت عنده ، وقسم لي من برّه ، وكرامته فوق الرضى ، وأذن لي في الدخول إلى قسنطينة ، وإقامة أهلي في كفالة إحسانه ، بينما أصل إلى حضرة أبيه. وبعث يعقوب بن علي معي ابن أخيه أبي دينار في جماعة من قومهم ، وسرنا إلى السّلطان أبي العبّاس ، وهو يومئذ قد خرج من تونس في العساكر إلى بلاد الجريد ، (١) لاستنزال شيوخها عن كراسي الفتنة التي كانوا عليها ، فوافيته بظاهر سوسة ، فحيّا وفادتي ، وبرّ مقدمي ، وبالغ في تأنيسي ، وشاورني في مهمّات أموره ، ثم ردّني إلى تونس ، وأوعز إلى نائبه بها مولاه فارح (٢) بتهيئة المنزل ، والكفاية في الجراية ، والعلوفة ، وجزيل الإحسان ، فرجعت إلى تونس في شعبان من السّنة ، وآويت إلى ظلّ ظليل من عناية السّلطان وحرمته ، وبعثت عن الأهل والولد ، وجمعت شملهم في مرعى تلك النّعمة ، وألقيت عصا التّسيار ، وطالت غيبة السّلطان إلى أن افتتح أمصار الجريد ، وذهب فلّهم في النواحي ، ولحق زعيمهم يحيى بن يملول (٣) ببسكرة ، ونزل على صهره ابن مزني ، وقسم السّلطان بلاد الجريد بين ولده ، فأنزل ابنه محمد المنتصر (٤)
__________________
(١) بلاد الجريد ، وتسمى الجريد أيضا : مقاطعة في القسم الجنوبي للملكة التونسية.
(٢) فارح بن مهدي الحاجب ، من موالي السّلطان أبي سعيد بن أبي سالم. كان مجربا للأمور ، عارقا ، مجيدا في التدبير ، متسما بالأمانة. له ترجمة في جذوة الاقتباس ص ٣١٦ ، والعبر ٧ / ٣٥٣ وما بعدها ، والاستقصا ٢ / ١٤٦.
(٣) يحيى بن محمد بن أحمد بن يملول أمير توزر. يرجع نسبهم ـ فيما يقولون ـ إلى تنوخ من طوالع العرب الداخلة للمغرب ؛ وأخبارهم مفصلة في العبر ٦ / ٤١٢ ـ ٤١٨. وقد ضبط ابن خلدون «يملول» بفتح الياء وسكون الميم ، وضم اللام بعدها واو ، فلام ؛ وتنطق اليوم إملول بهمزة مكسورة بدل الياء ؛ وهي قاعدة صوتية تكاد تطرد في النطق المغربي فيما أوله ياء ، وما قبل آخره حرف مد ؛ فيقولون في مثل : يكون ، ويدوم ، ويموت ، ويعيش ويطير ، ويقول ، وينام : إكون ، إدوم ، إموت ، إعيش ، إطير ، إقول ، إنام ـ بهمزات مكسورات بدل الياء.
(٤) انظر بعض أخباره في العبر ٦ / ٣٩٨.