وأقمت بالإسكندرية شهرا لتهيئة أسباب الحجّ ولم يقدر عامئذ ، فانتقلت إلى القاهرة أول ذي القعدة ، فرأيت حضرة الدنيا ، وبستان العالم ، ومحشر الأمم ، ومدرج الذّرّ (١) من البشر ، وإيوان الإسلام ، وكرسي الملك ، تلوح القصور والأواوين في جوّه ، وتزهر الخوانك (٢) والمدارس بآفاقه ، وتضيء البدور والكواكب من علمائه ، قد مثل بشاطئ بحر النيل نهر الجنّة (٣) ومدفع مياه السماء ، يسقيهم النّهل والعلل سيحه (٤) ويجني إليهم الثّمرات والخيرات ثجّه ، (٥) ومررت في سكك المدينة تغصّ بزحام المارّة ، وأسواقها تزخر بالنعم. وما زلنا نحدّث عن هذا البلد ، وبعد مداه في العمران ، واتساع الأحوال ، ولقد اختلفت عبارات من لقيناه من شيوخنا وأصحابنا ، حاجّهم وتاجرهم ، بالحديث عنه. سألت صاحبنا قاضي الجماعة بفاس ، وكبير العلماء بالمغرب ، أبا عبد الله المقري ، (٦) (مقدمه من الحجّ سنة أربعين (٧)) ، فقلت له : كيف هذه القاهرة؟ فقال : من لم يرها لم يعرف عزّ الإسلام.
وسألت شيخنا أبا العبّاس بن إدريس (٨) كبير العلماء ببجاية مثل ذلك فقال :
__________________
(١) المدرج : الطريق. والذر : النمل الأحمر الصغير.
(٢) جمع خانقاه ، وتقدمت كلمة عنها.
(٣) يشير ابن خلدون هنا إلى ما يقص حول نهر النيل من أنه أحد أنهار الجنة ، كدجلة والفرات ، وسيحان. وانظر الباب الأول من كتاب : «معرفة نيل مصر» للعماد الأقفهي (مخطوطة بمكتبة بغداد لي وهبي رقم ١٠٢٧) ، وخطط المقريزي ١ / ٨٠ ـ ٨١ طبع مصر سنة ١٣٢٤. على أن ابن خلدون لم يلتفت إلى هذا حين تحدث عن هذه الأنهار في مقدمته ؛ وقد نقد ياقوت هذه الأقاصيص بأنها «حديث خرافة».
(٤) السيح : الماء الجاري على وجه الأرض.
(٥) الثج : الصب الكثير. وفي القرآن : (وَأَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ ماءً ثَجَّاجاً) وثجيج الوادي : سيله.
(٦) مرت له ترجمة.
(٧) الزيادة عن الظاهري.
(٨) هو أبو العباس أحمد بن إدريس البجائي المالكي المتوفى بعد سنة ٠٦٧ ، له ترجمة في الديباج ص ٨١ ، ونيل الابتهاج ص ٧١.