كأنّما انطلق أهله من الحساب ، يشير إلى كثرة أممه وأمنهم العواقب. (١)
وحضر صاحبنا قاضي العسكر بفاس ، الفقيه الكاتب أبو القاسم البرجي (٢) بمجلس السّلطان أبي عنان ، منصرفه من السّفارة عنه إلى ملوك مصر ، وتأدية رسالته النبوية (٣) إلى الضريح الكريم ، سنة ست وخمسين وسأله عن القاهرة فقال :
أقول في العبارة عنها على سبيل الاختصار : إن الذي يتخيّله الإنسان ، فإنّما يراه دون الصّورة التي تخيّلها ، اتساع الخيال عن كلّ محسوس ، إلا القاهرة ، فإنّها أوسع من كل ما يتخيّل فيها. فأعجب السّلطان والحاضرون بذلك.
ولما دخلتها ، أقمت أياما ، وانثال عليّ طلبة العلم بها ، يلتمسون الإفادة مع قلّة البضاعة ، ولم يوسعوني عذرا ، فجلست للتدريس بالجامع الأزهر منها. (٤)
ثم كان الاتصال بالسّلطان ، فأبرّ اللّقاء ، وأنس الغربة ، ووفّر الجراية من صدقاته ، شأنه مع أهل العلم ، وانتظرت لحاق أهلي وولدي من تونس ، وقد صدّهم السّلطان هنالك عن السفر ، اغتباطا بعودي إليه ، فطلبت من السّلطان صاحب مصر الشّفاعة إليه في تخلية سبيلهم ، فخاطبه في ذلك بما نصّه. (٥)
__________________
(١) يقول المقريزي : «.... قال شيخنا الأستاذ أبو زيد عبد الرحمن بن خلدون رحمهالله تعالى :
أهل مصر كأنما فرغوا من الحساب». وانظر الخطط ١ / ٧٩ طبع صر سنة ١٣٢٤.
(٢) أبو القاسم محمد بن يحيى. مرت ترجمته في السابق.
(٣) هي رسالة اعتادوا أن يكتبوها في مناسبات مختلفة ، ويبعثوا بها إلى قبر الرسول صلىاللهعليهوسلم ؛ يحملها رسول خاص إلى الروضة الشريفة حيث تقرأ قرب القبر النبوي الكريم. وفي نفح الطيب أمثلة لهذا النوع من الرسائل.
(٤) جاء في «السلوك» ١١١ ب «نسخة الفاتح» : «وفي هذا الشهر (رمضان) ، قدم شيخنا أبو زيد عبد الرحمن بن خلدون من بلاد المغرب ، واتصل بالأمير الطنبغا الجوباني وتصدى للاشتغال بالجامع الأزهر ، فأقبل الناس عليه ، وأعجبوا به». والصحيح أنه دخل القاهرة فيما بين ٢١ شوال وأول ذي القعدة.
(٥) سقط نص هذه الرسالة مما عدا نسخة «طب» من الأصول.