الحكمين ، (١) معرضا عن الشّفاعات والوسائل من الجانبين ، جانحا إلى التّثبت في سماع البيّنات ، والنظر في عدالة المنتصبين لتحمّل الشّهادات ، فقد كان البرّ منهم مختلطا بالفاجر ، والطّيّب ملتبسا بالخبيث ، والحكّام ممسكون عن انتقادهم ، متجاوزون عمّا يظهرون عليه من هناتهم ، لما يموّهون (٢) به من الاعتصام بأهل الشّوكة ، فإنّ غالبهم مختلطون بالأمراء ، معلّمين للقرآن ، وأئمّة في الصّلوات ، يلبسون عليهم بالعدالة ، فيظنون بهم الخير ، ويقسمون لهم الحظّ من الجاه في تزكيتهم عند القضاة ، والتّوسّل لهم ، فأعضل داؤهم ، وفشت المفاسد بالتزوير والتدليس بين الناس منهم ، ووقفت على بعضها فعاقبت فيه بموجع العقاب ، ومؤلم النّكال ، وتأدّى إليّ العلم بالجرح في طائفة منهم ، فمنعتهم من تحمّل الشّهادة ، وكان منهم كتّاب لدواوين القضاة ، والتوقيع في مجالسهم ، قد دربوا (٣) على إملاء الدعاوى ، وتسجيل الحكومات ، (٤) واستخدموا للأمراء فيما يعرض لهم من العقود ، بإحكام كتابتها ، وتوثيق شروطها ، فصار لهم بذلك شفوف على أهل طبقتهم ، وتمويه على القضاة بجاههم ، يدّرعون (٥) به ممّا يتوقّعونه من عتبهم ، لتعرّضهم لذلك بفعلاتهم ، وقد يسلّط بعض منهم قلمه على العقود المحكمة ، فيوجد السبيل إلى حلّها بوجه فقهيّ ، أو كتابيّ ، ويبادر إلى ذلك متى دعا إليه داعي جاه أو منحة ، وخصوصا في الأوقاف التي جاوزت حدود النهاية في هذا المصر بكثرة عوالمه ، فأصبحت خافية الشهرة ، مجهولة الأعيان ، عرضة للبطلان ، باختلاف المذاهب المنصوبة للحكّام بالبلد ؛ فمن اختار فيها بيعا أو تمليكا شارطوه وأجابوه ، مفتاتين فيه على الحكّام الذين ضربوا دونه سدّ الحظر والمنع (٦) حماية عن التلاعب ، وفشا في
__________________
(١) كذا بالأصول ؛ والمراد «المحتكمين».
(٢) التمويه : التلبيس والخداع.
(٣) دربوا : مرنوا.
(٤) جمع حكومة ، وهي الحكم.
(٥) ادّرع : لبس الدّرع ، والمراد يحتمون.
(٦) انظر حكم بيع الوقف ، وتمليكه في : «البهجة في شرح التحفة» ٢ / ٢٥٩ ـ ٢٦٣ و «الابتهاج بنور السراج» ٢ / ١٢ ـ ١٦.