أدوائها وأوصابها ، (١) وأورث الأرض عباده الصّالحين من أيدي غصّابها ، بعد أن باهلت فارس بتاجها ، وعصابها ، (٢) وخلت الروم إلى تماثيلها وأنصابها ، وجعل لها من العلماء حفظة وقوّاما ، ونجوما يهتدي بها التّابع وأعلاما ، يقرّبونها للدّراية تبيانا وإفهاما ، ويوسعونها بالتدوين ترتيبا وإحكاما ، وتهذيبا لأصولها وفروعها ونظاما. ثمّ اختار لها الملوك يرفعون عمدها ، ويقيمون صغاها (٣) بإقامة السياسة وأودها ، ويدفعون بعزائمهم الماضية في صدر من أرادها بكياد أو قصدها ؛ فكان لها بالعلماء الظّهور والانتشار ، والذّكر السّيّار ، والبركات المخلّدة والآثار ، ولها بالملوك العزّ والفخار ، والصولة التي يلين لها الجبّار ، ويذلّ لعزّة المؤمنين بها الكفّار ، ويجلّل وجوه الشّرك معها الصّغار ، ولم تزل الأجيال تتداول على ذلك والأعصار ، والدّول تحتفل والأمصار ، والليل يختلف والنهار ، حتى أظلّت الإسلام دول هذه العصابة المنصورة من الترك ، الماحين بأنوار أسنّتهم ظلم الضّلالة والشّك ، القاطعين بنصالهم المرهفة علائق المين والإفك ، المصيبين بسهامهم النّافذة ثغر الجهالة والشّرك ، المظهرين سرّ قوله : «لا تزال طائفة من أمّتي» (٤) فيما يتناولونه من الأخذ والترك ، ففسحوا خطّة الإسلام ، وقاموا بالدعوة الخلافية أحسن القيام ، وبثّوها في أقصى التخوم من الحجاز والشام ، واعتمدوا في خدمة الحرمين الشريفين ما فضلوا به ملوك الأنام. واقتعدوا كرسيّ مصر الذي ألقت له الأقاليم يد الاستسلام ، على قدم الأيّام ، فزخر بها منذ دولتهم بحر العمران ، وتجاوبت فيها المدارس بترجيع المثاني والقرآن ، وعمّرت المساجد بالصّلوات والأذان ، تكاثر عدد الحصى والشّهبان ، وقامت المآذن على قدم
__________________
(١) الوصب : الوجع ، والمرض ؛ والجمع أوصاب.
(٢) العصاب : ما يعصب به الرأس من عمامة أو نحوها.
(٣) الصّغا : الميل.
(٤) حديث رواه البخاري في آخر باب «علامة النبوة في الإسلام» ، ومسلم في بابي «الإمارة» ، و «الإيمان» ، وانظر شرح العيني على «صحيح» البخاري ٧ / ٥٧٩ ، وشرح النووي على «صحيح» مسلم ١ / ٥٥ ، ٢ / ٢٠٦.