الأقيال (١) والأساورة ، (٢) وحائز قصب السبق في الملوك عند المناضلة والمفاخرة ، ومفوّض الأمور بإخلاصه إلى ولي الدنيا والآخرة ، مؤيّد كلمة الموحدين ، ورافع دعائم الدّين ، وظهير خلافة المؤمنين ، سلطان المسلمين أبو سعيد. صدّق الله فيما يقتفي من الله ظنونه ، وجعل النصر ظهيره ، كما جعل السعد قرينه ، والعزّ خدينه ، (٣) وكان وليّه على القيام بأمور المسلمين ومعينه ، وبلّغ الأمّة في اتّصال أيّامه ، ودوام سلطانه ، ما يرجونه من الله ويؤمّلونه. لمّا قلّده الله هذا الأمر الذي استوى له على كرسيّ الملك ، وانتظمت عقود الدّول في لبّات الأيام ، وكانت دولته واسطة السّلك وجمع له الدين بولاية الحرمين ، والدّنيا بسلطان التّرك. وأجرى له أنهار مصر من الماء والمال ، فكان مجازه فيها بالعدل في الأخذ والتّرك. وجمع عليه قلوب العباد. فشهد سرّها بمبّه الله (له) (٤) شهادة خالصة من الرّيب ، بريئة من الشّك ، حتى استولى من العزّ والملك على المقام الذي رضيه وحمده. ثم تاقت نفسه إلى ما عند الله ، فصرف قصده إليه واعتمده ، وسارع إلى فعل الخيرات بنفس مطمئنّة ، لا يسأل عليها أجرا ولا يكدّرها بالمنّة ، وأحسن رعاية الدين والملك تشهد بها الإنس والجنّة ، لا ، بل النّسم والأجنّة. ثم آوى الخلق إلى عدله تصديقا بأن الله يؤوه يوم القيامة إلى ظلاله المستجنّة ، ونافس في اتخاذ المدارس والرّبط لتعليم الكتاب والسنّة ، وبناء المساجد المقدّسة يبني له بها الله البيوت في الجنّة ، والله لا يضيع عمل عامل فيما أظهره أو أكنّه.
وإنّ مما أنتجته قرائح همّته وعنايته ، وأطلعته آفاق عدله وهدايته ، ووضحت شواهده على بعد مداه في الفخر وغايته ، ونجح مقاصده في الدين وسعايته ، هذا المصنع الشّريف ، والهيكل السّامي المنيف ، الذي راق الكواكب حسنه وظرفه ، وأعجز الهمم البشرية ترتيبه ورصفه ، لا! بل الكلم السّحرية تمثيله ووصفه وشمخ بمطاولة
__________________
(١) جمع قيل وهو ، في مملكة حمير ، بمنزلة الوزير بالنسبة للملك. (عن التاج).
(٢) جمع إسوار ، وهو الرّامي أو الفارس. وانظر «المعرب» للجواليقي ص ٢٠.
(٣) الخدين : الصديق.
(٤) زيادة عن كلمة الإهداء التي صدر بها ابن خلدون : «الكتاب الظاهري» وهي ضرورية.