وذلك أن الدول الكليّة ، وهي التي تتعاقب فيها الملوك واحدا بعد واحد في مدّة طويلة ، قائمين على ذلك بعصبية النسب أو الولاء ، وهذا كان الأصل في استيلائهم وتغلّبهم ، فلا يزالون كذلك إلى انقراضهم ، وغلب مستحقّين آخرين ينزعونه من أيديها بالعصبية التي يقتدرون بها على ذلك ، ويحوزون الأعمال التي كانت بأيدي الدولة الأولى ، يفضّون جبايتها بينهم على تفاضل البأس والرجولة والكثرة في العصابة أو القلّة : وهم على حالهم من الخشونة لمعاناة البأس ، والإقلال من العيش لاستصحاب حال البداوة ، وعدم الثروة من قبل ، ثم تنمو الثروة فيهم بنمو الجباية التي ملكوها ، ويزيّن حبّ الشهوات للاقتدار عليها ، فيعظم التّرف في الملابس والمطاعم والمساكن والمراكب والممالك ، وسائر الأحوال ، ويتزايد شيئا فشيئا بتزايد النعم وتتسع الأحوال أوسع ما تكون ، ويقصر الدخل عن الخرج ، وتضيق الجباية عن أرزاق الجند وأحوالهم ، ويحصل ذلك لكلّ أحد ممّن تحت أيديهم ، لأن الناس تبع لملوكهم ودولتهم ، ويراجع كلّ أحد نظره فيما فيه من ذلك ، فيرجع وراءه ، ويطلب كفاء خرجه بدخله.
ثم إن البأس يقلّ من أهل الدولة بما ذهب لهم من الخشونة ، وما صاروا إليه من رقّة الحاشية والتنعّم ، فيتطاول من بقي من رؤساء الدولة إلى الاستبداد بها غيرة عليها من الخلل الواقع بها. ويستعد لذلك بما بقي عنده من الخشونة ، ويحملهم على الإقلاع عن الترف ، ويستأنف لذلك العصابة بعشيره أو بمن يدعوه لذلك ، فيستولي على الدولة ، ويأخذ في دوائها من الخلل الواقع ، وهو أحقّ الناس به ، وأقربهم إليه ، فيصير الملك له ، وفي عشيره ، وتصير كأنّها دولة أخرى ، تمرّ عليها الأوقات. ويقع فيها ما وقع في الأولى ، فيستولي آخر منهم كذلك إلى أن تنقرض الدولة بأسرها ، وتخرج عن القوم الأولين أجمع. وتأتي دولة أخرى مباينة لعصابة هؤلاء في النسب ، أو الولاء. سنّة الله في عباده.
وكان مبدأ هذه الدولة التركية ، أنّ بني أيّوب لما ملكوا مصر والشام ، كما قصصناه عليك في أخبارهم واستقلّ بها كبيرهم صلاح الدين ، (١) وشغل بالجهاد وانتزاع
__________________
(١) في وفيات الأعيان ٢ / ٤٩٥ ـ ٥٣٩ ، ترجمة حافلة لصلاح الدين.