وقعد عن إجابته في الأسطول لما كان في الكتاب إليه (١) من العدول عن تخطيطه (٢) بأمير المؤمنين ، فوجدها غصّة في صدره منعته من إجابته إلى سؤاله ، وكان المانع لصلاح الدّين من ذلك كاتبه الفاضل عبد الرحيم البيساني (٣) بما كان يشاوره في أموره ، وكان مقيما لدعوة الخليفة العبّاسي بمصر ، فرأى الفاضل أن الخلافة لا تنعقد لاثنين في الملّة كما هو المشهور ، وإن اعتمد أهل المغرب سوى ذلك ، لما يرون أنّ الخلافة ليست لقبا فقط ، وإنما هي لصاحب العصبية القائم عليها بالشدّة والحماية ، والخلاف في ذلك معروف بين أهل الحقّ. (٤) فلما انقرضت دولة الموحّدين ، وجاءت دولة بني مرين من عدهم ، وصار كبراؤهم ورؤساؤهم يتعاهدون قضاء فرضهم لهذه البلاد الشرقية ، فيتعاهدهم ملوكها بالإحسان إليهم ، وتسهيل طريقهم ، فحسن في مكارم الأخلاق انتحال البرّ والمواصلة ، بالإتحاف والاستطراف والمكافأة في ذلك بالهمم الملوكية ، فسنّت لذلك طرائق وأخبار مشهورة ، من حقّها أن تذكر ، وكان يوسف بن يعقوب ابن عبد الحقّ ثالث ملوك بني مرين ، أهدى لصاحب مصر عام سبعمائة ، (٥) وهو يومئذ النّاصر بن محمد بن قلاوون ، هدية ضخمة ، أصحبها كريمة من كرائم داره ، احتفل فيها ما شاء من أنواع الطّرف ، وأصناف
__________________
(١) جاء في الروضتين (٢ / ١٧٠ ـ ١٧٥) نص الرسالة التي كتبها القاضي الفاضل إلى المنصور الموحدي ، ونص رسالة أخرى مضمنها تكليف الأمير ابن منقذ هذا بالسفارة إلى الموحدين.
(٢) تحليته.
(٣) عبد الرحيم بن الأشرف بهاء الدين ... العسقلاني ، ثم المصري المعروف بالقاضي الفاضل مجير الدين (٥٢٩ ـ ٥٩٦). وفيات ١ / ٣٥٧ وما بعدها. وانظر ٣١٦ / Brockelmann.Gal.I و. ٥٤٩ / Suppl.I ، حيث تجد نبذة وافية عن آثاره الأدبية ، وعن الأبحاث والمراجع عنه.
(٤) فصّل ابن خلدون القول في حكم تعدد الخليفة ، وذكر أقوالهم في ذلك ، في «فصل الخلافة» من مقدمته. وانظر شرح مواقف العضد للسيد الشريف الجرجاني ٣ / ٢٦٧ ، طبع استانبول سنة ١٣١١ ، وشرح المقاصد لسعد الدين التفتازاني ٢ / ١٩٩ ، طبع استانبول سنة ١٢٧٧ ، والملل والنحل لابن حزم ٤ / ٨٨ ، طبع مصر سنة ١٣١٧ ه ، الأحكام السّلطانية للماوردي ص ٧ ، طبع الوطن سنة ١٢٩٨.
(٥) انظر العبر ٥ / ٤٢٠ ، والاستقصا ٢ / ٤٠ ـ ٤١ ، حيث تجد تفصيل الحديث عن هذه الهدية.