وأرادني على السّفر معه في ركاب السّلطان ، فتجافيت عن ذلك. ثم أظهر العزم عليّ بليّن القول ، وجزيل الإنعام فأصخيت ، وسافرت معهم منتصف شهر المولد الكريم من سنة ثلاث ، فوصلنا إلى غزّة ، فأرحنا بها أياما نترقب الأخبار ، ثم وصلنا إلى الشام مسابقين الطّطر إلى أن نزلنا شقحب ، (١) وأسرينا فصبّحنا دمشق ، والأمير تمر في عساكره قد رحل من بعلبكّ (٢) قاصدا دمشق ، فضرب السّلطان خيامه وأبنيته بساحة قبة يلبغا. ويئس الأمير تمر من مهاجمة البلد ، فأقام بمرقب على قبّة يلبغا يراقبنا ونراقبه أكثر من شهر ، تجاول العسكران في هذه الأيام مرات ثلاثا أو أربعا ، فكانت حربهم سجالا ، ثم نمي الخبر إلى السّلطان وأكابر أمرائه ، أنّ بعض الأمراء المنغمسين في الفتنة يحاولون الهرب إلى مصر للثورة بها ، فأجمع رأيهم للرجوع إلى مصر خشية من انتقاض الناس وراءهم ، واختلال الدّولة بذلك ، فأسروا ليلة الجمعة من شهر (.....) ، (٣) وركبوا جبل الصّالحية ، ثم انحطّوا في شعابه ، وساروا على شافة البحر إلى غزّة ، وركب الناس ليلا يعتقدون أن السّلطان سار على الطريق الأعظم إلى مصر ، فساروا عصبا وجماعات على شقحب إلى أن وصلوا إلى مصر ، وأصبح أهل دمشق متحيّرين قد عميت عليهم الأنباء.
وجاءني القضاة والفقهاء ، واجتمعت بمدرسة العادلية ، واتّفق رأيهم على طلب الأمان من الأمير تمر على بيوتهم وحرمهم ، وشاوروا في ذلك نائب القلعة ، فأبى عليهم ذلك ونكره ، فلم يوافقوه. وخرج القاضي برهان الدّين بن مفلح الحنبلي (٤)
__________________
(١) بفتح الشين والحاء المهملة ، وسكون القاف بينهما (كجعفر) ، ويقول المقريزي في الخطط ٣ / ٣٩٩ (طبع مصر): «... إنها بظاهر دمشق» ؛ وزاد في السلوك ص ٩٣٢ : «تحت جبل غباغب» ؛ فهي ـ بناء على هذا ـ في جنوب دمشق. وانظر تاج العروس (شقب).
(٢) بعلبلك : Baal ـ Bek) عرضها الشمالي ٣٣ ـ ٨٥ ، وطولها الشرقي ٣٦ ـ ١١) إحدى مدن لبنان المشهورة ، وهي واقعة في الشمال لمدينة زحلة. وانظر ياقوت ٢ / ٣٣٦ ـ ٣٣٨.
(٣) بياض بالأصلين ، ولعلّه يريد «شهر جمادى الآخرة». وانظر تاريخ ابن إياس ١ / ٣٢٩.
(٤) هو برهان الدين إبراهيم بن محمد بن مفلح (٧٤٩ ـ ٨٠٣) ، وكان يحسن اللغتين : التركية ، والفارسية ، ولعلّهم ـ لذلك ـ اختاروه للسفارة. وانظر ابن إياس ١ / ٣٣٦.