فوقع في نفسي لأجل الوجل الذي كنت فيه أن أفاوضه في شيء من ذلك يستريح إليه ، ويأنس به مني ، ففاتحته وقلت : أيّدك الله! لي اليوم ثلاثون أو أربعون سنة أتمنّى لقاءك. فقال لي التّرجمان عبد الجبّار : وما سبب ذلك؟ فقلت : أمران ، الأول أنك سلطان العالم ، وملك الدّنيا ، وما أعتقد أنّه ظهر في الخليقة منذ آدم لهذا العهد ملك مثلك ، ولست ممن يقول في الأمور بالجزاف ، فإني من أهل العلم ، وأبّين ذلك فأقول : إن الملك إنما يكون بالعصبية ، وعلى كثرتها يكون قدر الملك ، واتفق أهل العلم من قبل ومن بعد ، أن أكثر أمم البشر فرقتان : العرب والتّرك ، وأنتم تعلمون ملك العرب كيف كان لمّا اجتمعوا في دينهم على نبيّهم ، وأما الترك ففي مزاحمتهم لملوك الفرس وانتزاع ملكهم أفراسياب خراسان من أيديهم شاهد بنصابهم من الملك. ولا يساويهم في عصبيتهم أحد من ملوك الأرض من كسرى ، أو قيصر ، أو الإسكندر ، أو بختنصّر ، أما كسرى فكبير الفرس ومليكهم ، وأين الفرس من الترك؟ وأما قيصر والإسكندر فملوك الروم ، وأين الروم من الترك؟ وأما بختنصّر فكبير أهل بابل ، والنّبط. وأين هؤلاء من التّرك ، وهذا برهان ظاهر على ما ادّعيته في هذا الملك.
وأما الأمر الثّاني مما يحملني على تمنّي لقائه ، فهو ما كنت أسمعه من أهل الحدثان بالمغرب ، والأولياء ، وذكرت ما قصصته من ذلك قبل. فقال لي : وأراك قد ذكرت بختنصّر مع كسرى ، وقيصر ، والإسكندر ، ولم يكن في عدادهم ، لأنهم ملوك أكابر. وبختنصّر قائد من قواد الفرس ، كما أنا نائب من نواب صاحب التّخت ، وهو هذا ، وأشار إلى الصّفّ القائمين وراءه ، وكان واقفا معهم ، وهو ربيبه الذي تقدّم لنا أنّه تزوّج أمّه بعد أبيه ساطلمش فلم يلفه هناك ، وذكر له القائمون في ذلك الصفّ أنه خرج عنهم.
فرجع إليّ فقال : ومن أيّ الطوائف هو بختنصّر؟ فقلت : بين الناس فيه خلاف ، فقيل من النّبط بقيّة ملوك بابل ، وقيل من الفرس الأولى ، فقال : يعني من ولد منوشهر. (١) قلت نعم هكذا ذكروا ، فقال : ومنوشهر له علينا ولادة من قبل
__________________
(١) منوجهر بالجيم المتوسطة بينها وبين الشين اسم ملك من الفرس الأول ، ومعناه فضيّ الطلعة ، وذلك لبهائه ؛ فان مينو بالفارسية : الفضة ، فاقتصروا على حذف الياء وقالوا منو. وجهر : الطلعة.
(عن هامش أصل أيا صوفيا).