الخامس عشر عرفته الشام أيضا ، فقد كان في معيّة السلطان فرج عام ٨٠٣ ه ١٤٠٠ عند خروجه لصدّ التتار ، وكان بدمشق حين حاصرها تيمور لنك ؛ وقد أخذ ابن خلدون طرفا في الوفد الذي خرج للتفاوض في تسليم المدينة ، وأغلب الظنّ أنّ قصّة مقابلته لتيمور وحديثه معه ، تلك القصّة التي يرويها بين عدد من المؤرّخين ابن عربشاه أيضا ، قد أخذت نصيبها من المبالغة والتزويق ، ولو أن ذلك لا ينفي إمكان حدوثها. وقد أذن له تيمور في الرجوع إلى مصر في مارس من عام ٨٠٣ ه ١٤٠٢ م فأمضى الأعوام الأخيرة من حياته بالقاهرة ، تارة يقال من منصبه كقاض وطورا يعاد إليه ؛ وأمام هذه اللوحة المتعدّدة الألوان لسيرة حياته لم يكن غريبا أن تحمل بعض مخطوطات ترجمته لسيرة حياته (Autobiography) عنوان «رحلة ابن خلدون في الغرب والمشرق» (١). وعلى الرغم من هذا فإنّ الكتاب في الحقيقة لا يمثّل مصنّفا جغرافيا من نمط الرحلة المعروف لنا جيدا ، بل هو ترجمة لسيرة حياته بقلمه بكلّ ما يحمل هذا اللفظ من معنى ؛ وفيها يعرض ابن خلدون لجميع تنقّلاته ، والحوادث التي مرّت به ، دون أن يحاول إظهار شخصيّته في ضوء ملائم لها ، مما يشهد له حقّا بالأمانة وشرف الضمير. وقد عرفت هذه السيرة من وقت طويل في أوروبا بفضل ترجمة دي سلين De Slane ؛ وهي توجد في معظم الأحوال ملحقة بمصنّفه
التاريخي ، وتساق في جميع المخطوطات تقريبا إلى عام ٦٩٧ ه ١٣٩٤ ، وهذا التاريخ يتّفق مع فترة انقطاعه بالفيّوم. غير أن طه حسين تمكّن من الرجوع إلى مخطوطة موجودة بالقاهرة تسوق العرض إلى عام ٨٠٧ ه ١٤٠٤ أي إلى العام السابق لعام وفاة ابن خلدون (٢).
__________________
(١) تحمل الطبعة المصرية لهذا الكتاب (١٩٥١) عنوانا مغايرا هو «التعريف بابن خلدون ورحلته غربا وشرقا». (المترجم).
(٢) تناول ابن خلدون النسخة الأولى بالتعديل والتنقيح والزيادة ، وأضاف إليها تاريخ حياته إلى نهاية ٧٠٨ ه ، أي إلى ما قبل وفاته ببضعة أشهر. وقد حفظت لنا من هذه الرواية الأخيرة مخطوطتان قيمتان بمكتبات استنبول ، ومنهما تفرّعت نسخة دار الكتب المصرية التي يشير إليها المؤلف ، وهي التي طبعت مؤخرا بالقاهرة كما أشرنا في الملاحظة السابقة لهذه. (المترجم).