الآخرة كقوله (فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً) (١) والظاهر أن (مَهْجُوراً) بمعنى متروكا من الإيمان به مبعدا مقصيا من الهجر بفتح الهاء. وقاله مجاهد والنخعي وأتباعه. وقيل : من الهجر والتقدير (مَهْجُوراً) فيه بمعنى أنه باطل. وأساطير الأولين أنهم إذا سمعوه هجروا فيه كقوله (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ) (٢).
قال الزمخشري : ويجوز أن يكون المهجور بمعنى الهجر كالملحود والمعقول ، والمعنى اتخذوه هجرا والعدو يجوز أن يكون واحدا وجمعا انتهى.
وانتصب (هادِياً) و (نَصِيراً) على الحال أو على التمييز. وقالوا أي الكفار على سبيل الاقتراح والاعتراض الدال على نفورهم عن الحق. قال الزمخشري : (نُزِّلَ) هاهنا بمعنى أنزل لا غير كخبر بمعنى أخبر وإلّا كان متدافعا انتهى. وإنما قال أن (نُزِّلَ) بمعنى أنزل لأن نزل عنده أصلها أن تكون للتفريق ، فلو أقره على أصله عنده من الدلالة على التفريق تدافع هو. وقوله (جُمْلَةً واحِدَةً) وقد قررنا أنا (نُزِّلَ) لا تقتضي التفريق لأن التضعيف فيه عندنا مرادف للهمزة. وقد بيّنا ذلك في أول آل عمران وقائل ذلك كفار قريش قالوا : لو كان هذا من عند الله لنزل جملة كما نزلت التوراة والإنجيل. وقيل : قائلو ذلك اليهود وهذا قول لا طائل تحته لأن أمر الاحتجاج به والإعجاز لا يختلف بنزوله جملة واحدة أو مفرقا بل الإعجاز في نزوله مفرقا أظهر إذ يطالبون بمعارضة سورة منه ، فلو نزل جملة واحدة وطولبوا بمعارضته مثل ما نزل لكانوا أعجز منهم حين طولبوا بمعارضة سورة منه فعجزوا والمشار إليه غير مذكور. فقيل : هو من كلام الكفار وأشاروا إلى التوراة والإنجيل أي تنزيلا مثل تنزيل تلك الكتب الإلهية جملة واحدة ويبقى (لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ) تعليلا لمحذوف أي فرقناه في أوقات (لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ). وقيل : هو مستأنف من كلام الله تعالى لا من كلامهم ، ولما تضمن كلامهم معنى لم أنزل مفرقا أشير بقوله كذلك إلى التفريق أي (كَذلِكَ) أنزل مفرقا.
قال الزمخشري : والحكمة فيه أن نقوي بتفريقه فؤادك حتى تعيه وتحفظه لأن المتلقن إنما يقوى قلبه على حفظ العلم شيئا بعد شيء ، وجزأ عقيب جزء ، ولو ألقي عليه جملة واحدة لكان يعيا في حفظه والرسول عليهالسلام فارقت حاله حال داود وموسى وعيسى
__________________
(١) سورة النساء : ٤ / ٤١.
(٢) سورة فصلت : ٤١ / ٢٦.