ولما رأى فرعون أمر العصا واليد ، وما ظهر فيهما من الآيات ، هاله ذلك ولم يكن له فيه مدفع فزع إلى رميه بالسحر. وطمع لغلبة علم السحر في ذلك الزمان أن يكون ثمّ من يقاومه ، أو كان علم صحة المعجزة. وعمى تلك الحجة على قومه ، برميه بالسحر ، وبأنه (يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ) ، ليقوي تنفيرهم عنه ، وابتغاؤهم الغوائل له ، وأن لا يقبلوا قوله ؛ إذ من أصعب الأشياء على النفوس مفارقة الوطن الذي نشأوا فيه ، ثم استأمرهم فيما يفعل معه ، وذلك لما حل به من التحير والدهش وانحطاطه عن مرتبة ألوهيته إلى أن صار يستشيرهم في أمره ، فيأمرونه بما يظهر لهم فيه ، فصار مأمورا بعد أن كان آمرا. وتقدم الكلام في (فَما ذا تَأْمُرُونَ) وفي الألفاظ التي وافقت ما في سورة الأعراف ، فأغنى عن إعادته. ولما قال : (إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ) ، عارضوا بقوله : (بِكُلِّ سَحَّارٍ) ، فجاءوا بكلمة الاستغراق والبناء الذي للمبالغة ، لينفسوا عنه بعض ما لحقه من الكرب. وقرأ الأعمش ، وعاصم في رواية : بكل ساحر. واليوم المعلوم : يوم الزينة ، وتقدم الكلام عليه في سورة طه. وقوله : (هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ) ، استبطاء لهم في الاجتماع ، والمراد منه استعجالهم ، كما يقول الرجل لغلامه : هل أنت منطلق؟ إذا أراد أن يحرك منه ويحثه على الانطلاق ، كما يخيل إليه أن الناس قد انطلقوا وهو واقف ، ومنه قول تأبط شرا :
هل أنت باعث دينارا لحاجتنا |
|
أو عند رب أخا عون بن مخراق |
يريد : ابعثه إلينا سريعا ولا تبطئ به. وترجوا اتباع السحرة ، أي في دينهم ، إن غلبوا موسى عليهالسلام ، ولا يتبعون موسى في دينه. وساقوا الكلام سياق الكناية ، لأنهم إذا اتبعوهم لم يتبعوا موسى عليهالسلام. ودخلت إذا هنا بين اسم إن وخبرها ، وهي جواب وجزاء. و (بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ) : الظاهر أن الباء للقسم ، والذي تتعلق به الباء محذوف ، وعدلوا عن الخطاب إلى اسم الغيبة تعظيما ، كما يقال للملوك : أمروا رضياللهعنهم بكذا ، فيخبر عنه إخبار الغائب ، وهذا من نوع إيمان الجاهلية. وقد سلك كثير من المسلمين في الإيمان ما هو أشنع من إيمان الجاهلية ، لا يرضون بالقسم بالله ، ولا يعتدون به حتى يحلف أحدهم بنعمة السلطان وبرأس المحلف ، فحينئذ يستوثق منه. وقال ابن عطية : بعد أن ذكر أنه قسم قال : والأجر أن يكون على جهة التعظيم والتبرك باسمه ، إذ كانوا يعبدونه ؛ كما تقول إذا ابتدأت بعمل شيء : بسم الله ، وعلى بركة الله ، ونحو هذا. وبين قوله : (قالَ لَهُمْ مُوسى) ، وقوله : (لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ) ، كلام محذوف ، وهو ما ثبت في الأعراف من تخييرهم إياه في البداءة من يلقى. قال الزمخشري : فإن قلت : فاعل الإلقاء ما هو لو صرح به؟