قال : (أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ) (١) ، لأن في إنذارهم ، وهم عشيرته ، عدم محاباة ولطف بهم ، وأنهم والناس في ذلك شرع واحد في التخويف والإنذار. فإذا كانت القرابة قد خوفوا وأنذروا مع ما يلحق الإنسان في حقهم من الرأفة ، كان غيرهم في ذلك أوكد وأدخل ، أو لأن البداءة تكون بمن يليه ثم من بعده ، كما قال : (قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ) (٢). وقال عليه الصلاة والسلام حين دخل مكة : «كل ربا في الجاهلية موضوع تحت قدميّ هاتين ، فأول ما أضعه ربا العباس ، إذ العشيرة مظنة الطواعية ، ويمكنه من الغلظة عليهم ما لا يمكنه مع غيرهم ، وهم له أشد احتمالا». وامتثل صلىاللهعليهوسلم ما أمره به ربه من إنذار عشيرته ، فنادى الأقرب فالأقرب فخذا. روروي عنه في ذلك أحاديث. (وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) : تقدم الكلام على هذه الجمل في آخر الحجر ، وهو كناية عن التواضع. وقال بعض الشعراء :
وأنت الشهير بخفض الجناح |
|
فلا تك في رفعه أجدلا |
نهاه عن التكبر بعد التواضع. والأجدل : الصقر ، ومن المؤمنين عام في عشيرته وغيرهم. ولما كان الإنذار يترتب عليه إما الطاعة وإما العصيان ، جاء التقسيم عليهما ، فكان المعنى : أن من اتبعك مؤمنا ، فتواضع له ؛ فلذلك جاء قسيمه : (فَإِنْ عَصَوْكَ) فتبرأ منهم ومن أعمالهم. وفي هذا موادعة نسختها آية السيف. والظاهر عود الضمير المرفوع في عصوك ، على أن من أمر بإنذارهم ، وهم العشيرة ، والذي برىء منه هو عبادتهم الأصنام واتخاذهم إلها آخر. وقيل : الضمير يعود على من اتبعه من المؤمنين ، أي فإن عصوك يا محمد في الأحكام وفروع الإسلام ، بعد تصديقك والإيمان بك ، (فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ) ، لا منكم ، أي أظهر عدم رضاك بعملهم وإنكارك عليهم. ولو أمره بالبراءة منهم ، ما بقي بعد هذا شفيعا للعصاة ، ثم أمره تعالى بالتوكل. وقرأ نافع ، وابن عامر ، وأبو جعفر ، وشيبة : فتوكل بالفاء ، وباقي السبعة : بالواو. وناسب الوصف بالعزيز ، وهو الذي لا يغالب ، وبالرحيم ، وهو الذي يرحمك. وهاتان الصفتان هما اللتان جاءتا في أواخر قصص هذه السورة. فالتوكل على من هو بهذين الوصفين كافية شر من بعضه من هؤلاء وغيرهم ، فهو يقهر أعداءك بعزته ، وينصرك عليهم برحمته. والتوكل هو تفويض الأمر إلى من يملك الأمر ويقدر عليه. ثم وصف بأنه الذي أنت منه بمرأى ، وذلك من رحمته بك أن أهلك لعبادته ،
__________________
(١) سورة يونس : ١٠ / ٢.
(٢) سورة التوبة : ٩ / ١٢٣.