مرغوب عنه لطول الفصل بينهما ، ولأن التقديم والتأخير لا يذهب إليه إلا عند الضرورة. وقرأ الجمهور : إنها بكسر الهمزة ، وسعيد بن جبير ، وابن أبي عبلة : بفتحها ، فإما على تقدير حرف الجر ، أي لأنها ، وإما على أن يكون بدلا من الفاعل الذي هو ما كانت تعبد.
قال محمد بن كعب القرظي وغيره : لما وصلت بلقيس ، أمر سليمان الجن فصنعت له صرحا ، وهو السطح في الصحن من غير سقف ، وجعلته مبنيا كالصهريج ومليء ماء ، وبث فيه السمك والضفادع ، وجعل لسليمان في وسطه كرسي. فلما وصلته بلقيس ، (قِيلَ لَهَا : ادْخُلِي) إلى النبي عليهالسلام ، فرأت اللجة وفزعت ، ولم يكن لها بد من امتثال الأمر ، فكشفت عن ساقها ، فرأى سليمان ساقيها سليمتين مما قالت الجن. فلما بلغت هذا الحد ، قال لها سليمان : (إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوارِيرَ) ، وعند ذلك استسلمت بلقيس وأذعنت وأسلمت وأقرت على نفسها بالظلم. وفي هذه الحكاية زيادة ، وهو أنه وضع سريره في صدره وجلس عليه ، وعكفت عليه الطير والجن والإنس. قال الزمخشري : وإنما فعل ذلك ليزيدها استعظاما لأمره وتحققا لنبوته وثباتا على الدين. انتهى. والصرح : كل بناء عال ، ومنه : (ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ) (١) ، وهو من التصريح ، وهو الإعلان البالغ. وقال مجاهد : الصرح هنا : البركة. وقال ابن عيسى : الصحن ، وصرحة الدار : ساحتها. وقيل : الصرح هنا : القصر من الزجاج ؛ وفي الكلام حذف ، أي فدخلته امتثالا للأمر. واللجة : الماء الكثير. وكشف ساقيها عادة من كان لابسا وأراد أن يخوض الماء إلى مقصد له ، ولم يكن المقصود من الصرح إلا تهويل الأمر ، وحصل كشف الساق على سبيل التبع ، إلا أن يصح ما روي عن الجن أن ساقها ساق دابة بحافر ، فيمكن أن يكون استعلام ذلك مقصودا. وقرأ ابن كثير : قيل في رواية الأخريط وهب بن واضح عن سأقيها بالهمز ، قال أبو علي : وهي ضعيفة ، وكذلك في قراءة قنبل : يكشف عن سأق ، وأما همز السؤق وعلى سؤقه فلغة مشهورة في همز الواو التي قبلها ضمة. حكى أبو علي أن أبا حية النميري كان يهمز كل واو قبلها ضمة ، وأنشد :
أحب المؤقدين إلى موسى
والظاهر أن الفاعل يقال هو سليمان ، ويحتمل أن يكون الفاعل هو الذي أمرها بدخول الصرح. وظلمها نفسها ، قيل : بالكفر ، وقيل : بحسبانها أن سليمان أراد أن يعرفها. وقال
__________________
(١) سورة غافر : ٤٠ / ٣٦.