ولما رأى موسى ما قابلوه به من كون ما أتى به سحرا ، وانتفاء سماع مثله في الزمان السابق ، (قالَ مُوسى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جاءَ بِالْهُدى مِنْ عِنْدِهِ) ، حيث أهله للرسالة ، وبعثه بالهدى ، ووعده حسن العقبى ، ويعني بذلك نفسه ، ولو كان كما يزعمون لم يرسله. ثم نبه على العلة الموجبة لعدم الفلاح ، وهي الظلم. وضع الشيء غير موضعه ، حيث دعوا إلى الإيمان بالله ، وأتوا بالمعجزات ، فادعوا الإلهية ، ونسبوا ذلك المعجز إلى السحر. وعاقبة الدار ، وإن كانت تصلح للمحمودة والمذمومة ، فقد كثر استعمالها في المحمودة ، فإن لم تقيد ، حملت عليها. ألا ترى إلى قوله : (أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ جَنَّاتُ عَدْنٍ) (١)؟ وقال : (وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ) (٢) وقرأ ابن كثير : قال موسى ، بغير واو ؛ وباقي السبعة : بالواو. ومناسبة قراءة الجمهور أنه لما جاءهم بالبينات قالوا : كيت وكيت ، وقال موسى : كيت وكيت ؛ فيتميز الناظر فصل ما بين القولين وفساد أحدهما ، إذ قد تقابلا ، فيعلم يقينا أن قول موسى هو الحق والهدى. ومناسبة قراءة ابن كثير ، أنه موضع قراءة لما قالوا : كيت وكيت ، قال موسى : كيت وكيت. ونفى فرعون علمه بإله غيره للملأ ، ويريد بذلك نفي وجوده ، أي ما لكم من إله غيري. ويجوز أن يكون غير معلوم عنده إله لهم ، ولكنه مظنون ، فيكون النفي على ظاهره ، ويدل على ذلك قوله : (وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكاذِبِينَ) ، وهو الكاذب في انتفاء علمه بإله غيره. ألا ترى إلى قوله حالة غرقه : (آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ) (٣)؟ واستمر فرعون في مخرقته ، ونادى وزيره هامان ، وأمره أن يوقد النار على الطين. قيل : وهو أول من عمل الآجر ، ولم يقل : أطبخ الآجر ، لأنه لم يتقدم لهامان علم بذلك ، ففرعون هو الذي يعلمه ما يصنع.
(فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً) : أي ابن لي ، لعل أطلع إلى إله موسى. أوهم قومه أن إله موسى يمكن الوصول إليه والقدرة عليه ، وهو عالم متيقن أن ذلك لا يمكن له ؛ وقومه لغباوتهم وجهلهم وإفراط عمايتهم ، يمكن ذلك عندهم ، ونفس إقليم مصر يقتضي لأهله تصديقهم بالمستحيلات وتأثرهم للموهمات والخيالات ، ولا يشك أنه كان من قوم فرعون من يعتقد أنه مبطل في دعواه ، ولكن يوافقه مخافة سطوه واعتدائه. كما رأيناه يعرض لكثير من العقلاء ، إذا حدث رئيس بحضرته بحديث مستحيل ، يوافقه على ذلك الحديث. ولا يدل الأمر ببناء الصرح على أنه بني ، وقد اختلف في ذلك ، فقيل : بناه ، وذكر من وصفه بما
__________________
(١) سورة الرعد : ١٣ / ٢٢ ـ ٢٣.
(٢) سورة الرعد : ١٣ / ٤٢.
(٣) سورة يونس : ١٠ / ٩٠.