المنافقين وقولهم : (ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً) ، بين حال المؤمنين ، وقولهم صدّ ما قال المنافقون. وكان الله وعدهم أن يزلزلهم حتى يستنصروه في قوله : (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ) (١) الآية. فلما جاء الأحزاب ، ونهض بهم للقتال ، واضطربوا ، (قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ) ، وأيقنوا بالجنة والنصر. وعن ابن عباس ، قال النبي صلىاللهعليهوسلم ، لأصحابه : «إن الأحزاب سائرون إليكم تسعا أو عشرا» ، أي في آخر تسع ليال أو عشر. فلما رأوهم قد أقبلوا للميعاد قالوا ذلك. وقيل : الوعد هو ما جاء في الآية مما وعده عليهالسلام حين أمر بحفر الخندق ، فإنه أعلمهم بأنهم يحضرون ، وأمرهم بالاستعداد لذلك ، وأعلمهم أنهم سينصرون بعد ذلك. فلما رأوا الأحزاب قالوا ذلك ، فسلموا لأول الأمر ، وانتظروا آخره. وهذا إشارة إلى الخطب ، إيمانا بالله وبما أخبر به الرسول مما لم يقع ، كقولك : فتح مكة وفارس والروم ، فالزيادة فيما يؤمن ، لا في نفس الإيمان.
وقرأ ابن أبي عبلة : وما زادوهم ، بالواو ، وضمير الجمع يعود على الأحزاب ، وتقول : صدقت زيدا الحديث ، وصدقت زيدا في الحديث. وقد عدت صدق هذه في ما يتعدى بحرف الجر ، وأصله ذلك ، ثم يتسع فيه فيحذف الحرف ويصل الفعل إليه بنفسه ، ومنه قولهم في المثل : صدقني سن بكره ، أي في سن بكره. فما عاهدوا ، إما أن يكون على إسقاط الحرف ، أي فيما عاهدوا ، والمفعول الأول محذوف ، والتقدير : صدقوا الله ، وإما أن يكون صدق يتعدى إلى واحد ، كما تقول : صدقني أخوك إذا قال لك الصدق ، وكذبك أخوك إذا قال لك الكذب. وكان المعاهد عليه مصدوقا مجازا ، كأنهم قالوا للمعاهد عليه : سنفي لك ، وهم وافون به ، فقد صدقوه ، ولو كانوا ناكثين لكذبوه ، وكان مكذوبا. وهؤلاء الرجال ، قال مقاتل والكلبي : هم أهل العقبة السبعون ، أهل البيعة. وقال أنس : نزلت في قوم لم يشهدوا بدرا ، فعاهدوا أن لا يتأخروا عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فوفوا. وقال زيد بن رومان : بنو حارثة.
(فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ) ، وهذا تجوز ، لأن الموت أمر لا بد منه أن يقع بالإنسان ، فسمي نحبا لذلك. وقال مجاهد : قضى نحبه : أي عهده. قال أبو عبيدة : نذره. وقال الزمخشري : (فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ) ، يحتمل موته شهيدا ، ويحتمل وفاءه بنذره من الثبات مع رسول الله صلىاللهعليهوسلم. وقالت فرقة : الموصوفون بقضاء النحب جماعة من الصحابة وفوا
__________________
(١) سورة البقرة : ٢ / ٢١٤.