(وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ) : قد ذكر أن الغادي يقيل في قرية ، والرائح في أخرى ، إلى أن يصل إلى مقصوده آمنا من عدو وجوع وعطش وآفات المسافر. قال الضحاك : مقادير المراحل كانت القرى على مقاديرها. وقال الكلبي : مقادير المقيل والمبيت ، وقال القتبي : بين كل قرية وقرية مقدار واحد معلوم ، وقيل : بين كل قريتين نصف يوم ، وهذه أقوال متقاربة. والظاهر أن قوله : (سِيرُوا) ، أمر حقيقة على لسان أنبيائهم. وقال الزمخشري : ولا قول ثم ، ولكنهم لما مكنوا من السير ، وسويت لهم أسبابه ، فكأنهم أمروا بذلك وأذن لهم فيه. انتهى. ودخول الفاء في قوله فكأنهم لا يجوز ، والصواب كأنهم لأنه خبر لكنهم. وقال قتادة : كانوا يسيرون مسيرة أربعة أشهر في أمان ، ولو وجد الرجل قاتل ابنه لم يهجه ، وكان المسافر لا يأخذ زادا ولا سقاء مما بسط الله لهم من النعم. وقال الزمخشري : (سِيرُوا فِيها) ، إن شئتم بالليل ، وإن شئتم بالنهار ، فإن الأمن فيها لا يختلف باختلاف الأوقات ؛ أو سيروا فيها آمنين ولا تخافون ، وإن تطاولت مدة أسفاركم فيها وامتدت أياما وليالي ؛ أو سيروا فيها لياليكم وأيامكم مدة أعماركم ، فإنكم في كل حين وزمان لا تلقون فيها إلا آمنين. انتهى. وقدم الليالي ، لأنها مظنة الخوف لمن قال : ومنّ عليهم بالأمن ، حتى يساوي الليل النهار في ذلك.
ولما طالت بهم مدة النعمة بطروا وملوا العافية ، وطلبوا استبدال الذي هو أدنى بالذي هو خير ، كما فعلت بنو إسرائيل ، وقالوا : لو كان جني ثمارنا أبعد لكان أشهى وأغلى قيمة ، فتمنوا أن يجعل الله بينهم وبين الشام مفاوز ليركبوا الرواحل فيها ويتزودوا الأزواد فقالوا : (رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا). وقرأ جمهور السبعة : ربنا بالنصب على النداء ، باعد : طلب ؛ وابن كثير ، وأبو عمرو ، وهشام : كذلك ، إلا أنهم شددوا العين ؛ وابن عباس ، وابن الحنفية ، وعمرو بن فائد : ربنا رفعا ، بعد فعلا ماضيا مشدد العين ؛ وابن عباس أيضا ، وابن الحنفية أيضا ؛ وأبو رجاء ، والحسن ، ويعقوب ، وأبو حاتم ، وزيد بن علي ، وابن يعمر أيضا ؛ وأبو صالح ، وابن أبي ليلى ، والكلبي ، ومحمد بن علي ، وسلام ، وأبو حيوة : كذلك ، إلا أنه بألف بين الباء والعين ؛ وسعيد بن أبي الحسن أخي الحسين ، وابن الحنفية أيضا ، وسفيان بن حسين ، وابن السميفع : ربنا بالنصب ، بعد بضم العين فعلا ماضيا بين بالنصب ، إلا سعيدا منهم ، فضم نون بين جعله فاعلا ، ومن نصب ، فالفاعل ضمير يعود على السير ، أي أبعد السير بين أسفارنا ، فمن نصب ربنا جعله نداء ، فإن جاء بعده طلب كان ذلك أشرا منهم وبطرا وإن جاء بعد فعلا ماضيا كان ذلك شكوى مما أحل بهم من بعد