الأسفار التي طلبوها أولا ، ومن رفع ربنا فلا يكون الفعل إلا ماضيا ، وهي جملة خبرية فيها شكوى بعضهم إلى بعض مما حل بهم من بعد الأسفار. ومن قرأ باعد ، أو بعد بالألف والتشديد ، فبين مفعول به ، لأنهما فعلان متعديان ، وليس بين ظرفا. ألا ترى إلى قراءة من رفعه كيف جعله اسما؟ (فَكَذلِكَ) إذا نصب وقرىء بعد مبنيا للمفعول. وقرأ ابن يعمر : بين سفرنا مفردا ؛ والجمهور : بالجمع. (وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) : عطف على (فَقالُوا). وقال الكلبي : هو حال ، أي وقد ظلموا أنفسهم بتكذيب الرسل. (فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ) : أي عظاة وعبرا يتحدث بهم ويتمثل. وقيل : لم يبق منهم إلا الحديث ، ولو بقي منهم طائفة لم يكونوا أحاديث. (وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ) : أي تفريقا ، اتخذه الناس مثلا مضروبا ، فقال كثير :
أيادي سبايا عز ما كنت بعدكم |
|
فلم يحل للعينين بعدك منظر |
وقال قتادة : فرقناهم بالتباعد. وقال ابن سلام : جعلناهم ترابا تذروه الرياح. وقال الزمخشري : غسان بالشام ، وأنمار بيثرب ، وجذام بتهامة ، والأزد بعمان ؛ وفي التحرير وقع منهم قضاعة بمكة ، وأسد بالبحرين ، وخزاعة بتهامة. وفي الحديث أن سبأ أبو عشرة قبائل ، فلما جاء السيل على مأرب ، وهو اسم بلدهم ، تيامن منهم ستة قبائل ، أي تبدّدت في بلاد اليمن : كندة والأزد والسفر ومذحج وأنمار ، التي منها بجيلة وخثعم ، وطائفة قيل لها حجير بقي عليها اسم الأب الأول ؛ وتشاءمت أربعة : لخم وجذام وغسان وخزاعة ، ومن هذه المتشائمة أولاد قتيلة ، وهم الأوس والخزرج ، ومنها عاملة وغير ذلك.
(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ) : أي في قصص هؤلاء لآية : أي علامة. (لِكُلِّ صَبَّارٍ) ، عن المعاصي وعلى الطاعات. (شَكُورٍ) ، للنعم. والظاهر أن الضمير في (عَلَيْهِمْ) عائد على من قبله من أهل سبأ ، وقيل : هو لبني آدم. وقرأ ابن عباس ، وقتادة ، وطلحة ، والأعمش ، وزيد بن علي ، والكوفيون : (صَدَّقَ) بتشديد الدال ، وانتصب (ظَنَّهُ) على أنه مفعول بصدق ، والمعنى : وجد ظنه صادقا ، أي ظن شيئا فوقع ما ظن. وقرأ باقي السبعة : بالتخفيف ، فانتصب ظنه على المصدر ، أي يظن ظنا ، أو على إسقاط الحرف ، أي في ظنه ، أو على المفعول به نحو قولهم : أخطأت ظني ، وأصبت ظني ، وظنه هذا كان حين قال : (لَأُضِلَّنَّهُمْ) (١) ، (وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ) (٢) ، وهذا مما قاله ظنا منه ، فصدق هذا الظن.
__________________
(١) سورة النساء : ٤ / ١١٩.
(٢) سورة الحجر : ١٥ / ٣٩.