ما جاءهم رسول ، بل هم مقرون. ألا ترى إلى قول المتبوعين : (بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ)؟ فالجمع المقرون بأن الذكر قد جاءهم ، فقال لهم رؤساؤهم : (أَنَحْنُ صَدَدْناكُمْ) ، فأتوا بالاسم بعد أداة الاستفهام إنكارا ، لأن يكونوا هم الذين صدوهم. صددتم من قبل أنفسكم وباختياركم بعد أداة الاستفهام ، كأنهم قالوا : نحن أخبرناكم وحلنا بينكم وبين الذكر بعد أن هممتم على الدخول في الإيمان ، بل أنتم منعتم أنفسكم حظها وآثرتم الضلالة على الهدى ، فكنتم مجرمين كافرين باختياركم ، لا لقولنا وتسويلنا. ولما أنكر رؤساؤهم أنهم السبب في كفرهم ، وأثبتوا بقولهم : (بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ) ، أن كفرهم هو من قبل أنفسهم ، قابلوا إضرابا بإضراب ، فقال الأتباع : (بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) : أي ما كان إجرامنا من جهتنا ، بل مكركم لنا دائما ومخادعتكم لنا ليلا ونهارا ، إذ تأمروننا ونحن أتباع لا نقدر على مخالفتكم ، مطيعون لكم لاستيلائكم علينا بالكفر بالله واتخاذ الأنداد. وأضيف المكر إلى الليل والنهار اتسع في الظرفين ، فهما في موضع نصب على المفعول به على السعة ، أو في موضع رفع على الإسناد المجازي ، كما قالوا : ليل نائم ، والأولى عندي أن يرتفع مكر على الفاعلية ، أي بل صدنا مكركم بالليل والنهار ، ونظيره قول القائل : أنا ضربت زيدا بل ضربه عمرو ، فيقول : بل ضربه غلامك ، والأحسن في التقدير أن يكون المعنى : ضربه غلامك. وقيل : يجوز أن يكون مبتدأ وخبرا ، أي سبب كفرنا. وقرأ قتادة ، ويحيى بن يعمر : بل مكر بالتنوين ، الليل والنهار نصب على الظرف. وقرأ سعيد بن جبير بن محمد ، وأبو رزين ، وابن يعمر أيضا : بفتح الكاف وشد الراء مرفوعة مضافة ، ومعناه : كدور الليل والنهار واختلافهما ، ومعناها : الإحالة على طول الأمل ، والاغترار بالأيام مع أمر هؤلاء الرؤساء الكفر بالله. وقرأ ابن جبير أيضا ، وطلحة ، وراشد هذا من التابعين ممن صحح المصاحف بأمر الحجاج : كذلك ، إلا أنهم نصبوا الراء على الظرف ، وناصبه فعل مضمر ، أي صددتمونا مكر الليل والنهار ، أي في مكرهما ، ومعناه دائما. وقال صاحب اللوامح : يجوز أن ينتصب بإذ تأمروننا مكر الليل والنهار. انتهى. وهذا وهم ، لأن ما بعد إذ لا يعمل فيما قبلها. وقال الزمخشري : بل يكون الإغراء مكرا دائما لا يفترون عنه. انتهى.
وجاء (قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا) بغير واو ، لأنه جواب لكلام المستضعفين ، فاستؤنف ، وعطف (وَقالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا) على ما سبق من كلامهم ، والضمير في (وَأَسَرُّوا) للجميع المستكبرين والمستضعفين ، وهم الظالمون الموقوفون ، وتقدم الكلام في (وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ) في سورة يونس ، والندامة من المعاني القلبية ، فلا