وفي قولهم : (بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَ) ، إشعار لهم بما عبدوه ، وإن لم يصرح به. لكن الإضراب ببل يدل عليه وذلك لأن المعبود إذا لم يكن راضيا بعبادة عابده مريدا لها ، لم يكن ذلك العابد عابدا له حقيقة ، فلذلك قالوا : (بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَ) ، لأن أفعالهم القبيحة من وسوسة الشياطين وإغوائهم ومراداتهم عابدون لهم حقيقة ، فلذلك قالوا : (بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَ) ، إذ الشياطين راضون تلك الأفعال. وقيل : صورت لهم الشياطين صور قوم من الجن ، وقالوا : هذه صور الملائكة فاعبدوها. وقيل : كانوا يدخلون في أجواف الأصنام إذا عبدت ، فيعبدون بعبادتها. وقال ابن عطية : لم تنف الملائكة عبادة البشر إياها ، وإنما أقرت أنها لم يكن لها في ذلك مشاركة. وعبادة البشر الجن هي فيما يقرون بطاعتهم إياهم ، وسماعهم من وسوستهم وإغوائهم ، فهذا نوع من العبادة. وقد يجوز أن يكون في الأمم الكافرة من عبد الجن ، وفي القرآن آيات يظهر منها أن الجن عبدت ، في سورة الأنعام وغيرها. انتهى. وإذا هم قد عبدوا الجن ، فما وجه قولهم : أكثرهم مؤمنون ، ولم يقولوا جميعهم ، وقد أخبروا أنهم كانوا يعبدون الجن؟ والجواب أنهم لم يدعوا الإحاطة ، إذ قد يكون في الكفار من لم يطلع الملائكة عليهم ، أو أنهم حلموا على الأكثر بإيمانهم بالجن لأن الإيمان من عمل القلب ، فلم يذكروا الاطلاع على جميع أعمال قلوبهم ، لأن ذلك لله تعالى. ومعنى (مُؤْمِنُونَ) : مصدقون أنهم معبودوهم ، وقيل : مصدقون أنهم بنات الله ، وأنهم ملائكة ، (وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً) (١). وأما من قال بأن الأكثر بمعنى الجميع ، فلا يرد عليه شيء ، لكنه ليس موضوع اللغة.
(فَالْيَوْمَ) : هو يوم القيامة ، والخطاب في (بَعْضُكُمْ) ، قيل : للملائكة ، لأنهم المخاطبون في قوله : (أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ) ، ويكون ذلك تبكيتا للكفار حين بين لهم أن من عبدوه لا ينفع ولا يضر ، ويؤيده : (وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى) (٢) ، ولأن بعده : (وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا) ، ولو كان الخطاب للكفار ، لكان التركيب فذوقوا. وقيل : الخطاب للكفار ، لأن ذكر اليوم يدل على حضورهم ، ويكون قوله : ويقول ، تأكيدا لبيان حالهم في الظل. وقيل : هو خطاب من الله لمن عبد ومن عبد. وقوله : (نَفْعاً) ، قيل : بالشفاعة ، (وَلا ضَرًّا) بالتعذيب. وقيل هنا : (الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ) ، وفي السجدة : (الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ) (٣) كل منهما ، أي من العذاب ومن النار ، لأنهم هنا لم يكونوا ملتبسين بالعذاب ،
__________________
(١) سورة الصافات : ٣٧ / ١٥٨.
(٢) سورة الأنبياء : ٢١ / ٢٨.
(٣) سورة السجدة : ٣٢ / ٢٠.