سبحانه أوجدكم في هذه الحياة بعد الموت ، وأتمّ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة ، ووهبكم أفضل مقومات الحياة من العقل والحواس والمشاعر ، وأمدكم بالأرزاق التي تكفل بقاء الحياة ، ثم أماتكم عند انقضاء الأجل ، ثم يحييكم بالبعث من القبور ، ثم ترجعون إلى الله وحده للحساب والجزاء ، ليجزي كل امرئ بما قدّم ، ولتحاسب كل نفس على النعمة التي أنعم الله بها عليكم. فهاتان موتتان وحياتان ، لا تدع لكم عذرا في البقاء على الكفر ، والاستهزاء بأمثال القرآن ، وإنكار نبوّة محمد صلىاللهعليهوآلهوسلم.
قال ابن عباس وابن مسعود : أي كنتم أمواتا معدومين قبل أن تخلقوا ، فأحياكم ـ أي خلقكم ـ ثم يميتكم عند انقضاء آجالكم ، ثم يحييكم يوم القيامة. ويؤيده آية أخرى : (قالُوا : رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ ، وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ) [غافر ٤٠ / ١١]. قال ابن عطية : وهذا القول : هو المراد بالآية ، وهو الذي لا محيد للكفار عنه لإقرارهم بهما ، وإذا أذعنت نفوس الكفار لكونهم أمواتا معدومين ، ثم للإحياء في الدنيا ، ثم للإماتة فيها ، قوي عليهم لزوم الإحياء الآخر ، وجاء جحدهم له دعوى لا حجة عليها (١).
ثم بعد ذكر المبدأ والمنتهى ، ذكر الله تعالى برهانا على البعث ، وعلى توجيه النفوس نحو الإيمان ، فأبان أنه خلق لكم الأرض وما فيها ، لتنتفعوا بكل ما فيها ، وتعتبروا بأن الله هو الخالق الرازق ، فيكون الانتفاع إما ماديا بالاستفادة من الموجودات العينيّة في حال المعيشة ، وإما معنويا بالنظر والاعتبار فيما لا سلطة لأيديكم عليه ، ويتم في الحالتين غذاء الأجساد والأرواح.
ومكّن الله تعالى للإنسان الحياة في الأرض بإظلاله بالسقف المحفوظ وهو السموات السبع ، التي رفعها بقدرته ، وسوّاها محكمة البناء ، وأوجدها بحكمته ،
__________________
(١) تفسير القرطبي : ١ / ٢٤٩.