وكان إمداد اليهود بالنّعم من أجل شدهم إلى منهج الاستقامة ، وتخليصهم بالتوبة من الخطايا التي كانوا يرتكبونها ، وذلك كله على سبيل العظة والعبرة. وكان إبقاء اليهود في التّيه أربعين سنة من أجل خروج جيل جديد يتربى على العقائد الحقة وفضائل الأخلاق ، وانقراض ذلك الجيل الذي تأصلت فيه جذور الوثنية وعبادة العجل.
وحينما أمر الله اليهود بالدخول في باب القرية سجّدا قائلين : حطّة ، بدلوا ودخلوا الباب ، يزحفون على أستاههم ، وقالوا : حبّة في شعرة ، وكان قصدهم خلاف ما أمرهم الله به ، فعصوا وتمردوا واستهزءوا ، فعاقبهم الله بالرجز وهو العذاب. وفي هذا دليل على أن تبديل الأقوال المنصوص عليها في الشريعة لا يجوز إن كان التّعبد بلفظها ، لذمّ الله تعالى من بدّل ما أمر به بقوله. أما إن كان التّعبد بمعناها فيجوز تبديلها بما يؤدّي ذلك المعنى ، ولا يجوز تبديلها بما يخرج عنه. وبناء عليه أجاز جمهور العلماء للعالم بمواقع الخطاب البصير بآحاد كلماته رواية الحديث النّبوي بالمعنى ، لكن بشرط المطابقة للمعنى بكماله. واتّفق العلماء على جواز نقل الشرع للأعاجم غير العرب بلسانهم وترجمته لهم ، وذلك هو النقل بالمعنى. وقد فعل الله ذلك في كتابه فيما قصّ من أنباء ما قد سلف ، فقصّ قصصا ذكر بعضها في مواضع بألفاظ مختلفة والمعنى واحد ، ونقلها من ألسنتهم إلى اللسان العربي ، وهو مخالف لها في التقديم والتأخير ، والحذف والإلغاء ، والزيادة والنقصان. وإذا جاز إبدال العربية بالعجمية ، فلأن يجوز بالعربية أولى. وأما حديث «نضّر الله وجه امرئ سمع مقالتي ، فبلّغها كما سمعها» فالمراد حكمها ، لا لفظها ، لأن اللفظ غير معتدّ به (١).
وأما تعذيب بني إسرائيل بإنزال الرجز (أي العذاب) من السماء ، فكان
__________________
(١) تفسير القرطبي : ١ / ٤١١ ـ ٤١٣