لكن الله تعالى عاقبهم على كفران تلك النعم ، وعلى الاستهزاء بآيات الله التي آتاها موسى وهي معجزاته الباهرة ، وعلى قتلهم الأنبياء ظلما ، فهم قتلوا أشعيا وزكريا ويحيى وغيرهم بغير مسوغ للقتل ، وكانت عقوبتهم إلحاق الذّل والهوان بهم في الدنيا ، ذلّا وهوانا ملازما لهم ومحيطا بهم ، كما تحيط الخيمة بمن فيها ، والذليل عادة يستخذي ويستهين ، ثم استحقاق غضب الله وبلائه ونقمته في الدنيا وعذابه الأليم في الآخرة.
وكان ذلك العقاب بسبب عصيانهم أوامر ربهم عصيانا متكررا ، وتعديهم حدود دينهم ، واعتدائهم على الناس ومنهم الأنبياء ، فعلة جزائهم أمران : أنهم كانوا يعصون ويعتدون ، والعصيان : فعل المناهي ، والاعتداء : المجاوزة في حدّ المأذون فيه والمأمور به.
وضرب الذّلة والمسكنة أي الذّل والفقر والحاجة على اليهود ، وإن كانوا ذوي مال ، أمر قائم على أساس الشعور الذاتي النابع من أعماق النفس ، فهم في فقر دائم وذلّ مستمر ، وقد ورثوا صفات الذّل وضعف النّفس وامتهانها وحقارة التصرفات ودناءة الأخلاق ، فلا يكادون يحسون بغنى النفس وعزتها ، ولا تشبع نفوسهم ، ولا ترتوي من شيء ، وتظل أطماعهم وأحقادهم مسيطرة عليهم ، حتى إنهم يعبدون المادة ، ويؤلهون المال ، وذلك كله بسبب إحساسهم الداخلي بالاستزادة من الأموال.
وقيام دولة لليهود أيضا لا يصادم هذه الآية التي تقرر إلحاق الذّل والهوان بهم ، لأن مقومات الدولة الحقيقية غير متوافرة لهم ، وهم في أمسّ الحاجة دائما إلى الشعور بالطمأنينة والاستقرار ، مما أحوجهم إلى الدعم المستمر غير المتناهي اقتصاديا وسياسيا وعسكريا ، من الدول الكبرى ، وعلى رأسها أمريكا.