ومنه شعر الهجاء الذي لم يقصد به هجو الكفار ونصرة الإسلام والمسلمين ، فإن كان انتصارا لمن هجا المسلمين ، وشبب بأعراضهم جاز ، وكان مستحسنا ؛ لقوله تعالى : (لا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ) [النساء ٤ / ١٤٨].
ويحمل الحديث الآخر على الشعر الممدوح الحسن المقبول الذي قصد به إظهار الحق ، وإيراد الحكمة ، وتعليم الجاهل ، ونصرة المظلوم والحق ، والدفاع عن الوطن ، والذود عنه بجيد الكلام ، ونحو ذلك من كل ما فيه نفع ، وتربية للنفوس ، وتهذيب للعقول ، وتوحيد الصفوف.
وهذا التوفيق بين الحديثين ما هو إلا نوع من وسطية الإسلام المعروفة ، والاعتدال في الأشياء كلها ؛ روى عبد الله بن عمرو بن العاص قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «الشعر بمنزلة الكلام ، حسنه كحسن الكلام ، وقبيحه كقبيح الكلام». (١)
وردد هذا المعنى كبار الأئمة وعلماء اللغة والأدب ، فقال الإمام الشافعي رضياللهعنه : الشعر نوع من الكلام : حسنه كحسن الكلام ، وقبيحه كقبيح الكلام ، يعني أن الشعر ليس يكره لذاته ، وإنما يكره لمضمونه ، وقد كان عند العرب عظيم الأثر والموقع.
وقال أبو عمر بن عبد البر رحمهالله : ولا ينكر الحسن من الشعر أحد من أهل العلم ولا من أولي النّهى ، وليس أحد من كبار الصحابة وأهل العلم وموضع القدوة إلا وقد قال الشعر ، أو تمثّل به أو سمعه ، فرضيه ما كان حكمة أو مباحا ، ولم يكن فيه فحش ولا خنا ولا لمسلم أذى ، فإذا كان كذلك فهو والمنثور من القول سواء ، لا يحل سماعه ولا قوله. والخلاصة : إن من الشعر ما يجوز إنشاده ، ومنه ما يكره أو يحرم.
__________________
(١) رواه البخاري في الأدب والطبراني في الأوسط عن عبد الله بن عمرو ، وأبو يعلى عن عائشة ، وهو حسن.