مهتدية بفطرتها كما فطر الله ولكن هؤلاء الدواب الناس النسناس لهم آذان وألسنة وهم بسوء صنيعهم لا يسمعون إنسانيا ولا ينطقون ، فقد قطعوا عن أنفسهم النفسية الإنسانية النفيسة إلى نفسية نحيسة بئيسة تعيسة جعلتهم (شَرَّ الدَّوَابِّ) بصورة طليقة! حيث سدوا منافذ الإدراك ظاهرا على آذانهم ، واذاعتها على ألسنتهم ، وباطنا على قلوبهم ، وأهم الواردات المعرفية هي الواردة من الأسماع : (وَقالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ) (٦٧ : ١٠).
وشر الدواب هؤلاء الأنكاد لهم «الصورة صورة إنسان والقلب قلب حيوان وذلك ميت الأحياء» (٨٥ / ١٥٥) ـ أولئك «لم يستضيئوا بأضواء الحكمة ، ولم يقدحوا بزناد العلوم الثاقبة ، فهم في ذلك كالأنعام السائمة ، والصخور القاسية» (١٠٦ و ٤٠) ـ «منهوما باللذة ، سلس القياد للشهوة ، أو مغرما بالجمع والادخار ، ليسا من رعاة الدين في شيء ، أقرب شيء شبها بالأنعام السائمة» (١٤٧ ح / ٥٩٥).
إن الله تعالى لم يخلق دابة شريرة في أصلها ، فلم يخلق الشيطان شيطانا وإنما جنا كسائر الجان ، ثم هو الذي شيطن نفسه بسوء صنيعه ، كما لم يخلق الكافر كافرا ، وكذلك سائر الدواب الشريرة ، اللهم إلّا شرا قاصرا هو قضية كون الكائن مخلوقا إذ لا يمكن أن يخلق ما هو خير مطلق كما الله.
ذلك ، فالدواب الشريرة في حقل (شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الصُّمُّ) هي المقصرة في شرها فأين تقصير سائر الدواب وتقصير الصم البكم ، فقضية خلق الإنسان في أحسن تقويم والشرعة التي تقومه أكثر صاعدا في المعارج ، ألا يعمل شرا أم يعمل أقل من سائر الدواب ، فأما إذا يعاكس الإنسان أمره ارتدادا إلى أسفل سافلين فهو (شَرَّ الدَّوَابِّ) بصورة طليقة وكما يقول الله عنه (حَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً) مهما كان حمل الأمانة خيانة من سائر الكائنات كثيرة ، فهو بجنب حمل الإنسان ضئيل قليل.