ذلك ، ولأن الذين انتهوا عن كفرهم ما كان تكليفهم بالفروع كما على المؤمنين ، ولكيلا يصدهم عن الإيمان عبء الإتيان بما سلف والجبران لما تخلف ، فالصالح في الرحمة الربانية وسياسة الجذب إلى الإيمان أن (يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ) ولكنه محدد بما ليس من حقوق الناس ، وان كان منها فبما يجبره الله حتى يرضي المهضومين في حقوقهم.
ثم وعلى كتلة الإيمان التنازل عن حقوقهم المهضومة فيما يؤمن الهاضمون إياها إكراما للإيمان ، وتنازلا عن مصالحهم الشخصية للمصلحة الجماعية لكتلة الإيمان.
ذلك ، وكضابطة في غفر الله أيا كان ولأي كان ، لا مجال له ككل إلا حقوق الله وأما حقوق الناس فلا إلا أن يدل دليل خاص عليه كأن الله يرضي المستحقين ، أو أنه يريد منهم أن يرضوا ، ولا نجد هذا أو ذاك بالنسبة لانتهاء الكفار عن كفرهم ، فإنما يغفر لهم ما قد سلف من واجبات متروكة أو محرمات مفعولة في حقل حقوق الله فقط.
هذا ، ومع كل ذلك فقد يحكم إطلاق (ما قَدْ سَلَفَ) شمولا لحقوق الناس ، استسماحا من الناس المؤمنين هنا وسماحا من الله في الأخرى كما يصح ويرضى ، فإن غفر حقوق الناس محظور إذا لم يكن إليه سبيل وإن محتملا ، وقد نجد مثله في مواضع كالتجهيز وولاية اليتامى ، والدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وما أشبه حيث المصلحة العامة العليا اقتضت هضم الحقوق المالية فيها رعاية للأهم الأعم ، فقد يكون هكذا الأمر وبأحرى بالنسبة للذين ينتهون عن الكفر ، فلا مقيد قاطعا لحقوق الناس في غفر ما سلف للذين آمنوا.
وحين يعمل مثلث (تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً) تبديل سيئات المؤمنين حسنات ، فبأحرى أن يغفر عن كل السيئات لمن انتهى عن كفره ترغيبا وتشويقا ، لا سيما وأن تكليف الكفار بالفروع أخف من تكليف المؤمنين بها ، فلتغفر لهؤلاء ما سلف بأحرى منهم.