وهم في ذلك الاستغراب العجاب ينزّلون من شأن الإنسانية إلى درجة الحيوان ، حيث ينظرون إليه من المنظر المادي ، متغافلين الروح العالية المتعالية التي تطير به إلى أعلى آفاق الكمال ، فلا عجب ـ إذا ـ أن يختار الله رسولا من جنسه ، حجة له عليه ، وهاديا إليه.
وإنه الحكمة البالغة الإلهية ، ان يبعث إلى البشر واحدا منهم يحس ما يحسون ، ويتذوق مواجدهم التي يتذوقون ، ويعاني تجاربهم التي يعانون ، مدركا لآمالهم وآلامهم ، عارفا نوازعهم وأشواقهم ، عالما ضروراتهم وأثقالهم وأشغالهم ، فيسير بهم خطوة خطوة إلى ما صار هو عليه ، ولكي تكون حياته هو البشر ـ بحركاته وأعماله ـ صفحة معروضة لهم ينقلونها سطرا سطرا ، ويحققونها حرفيا ، حيث تهفو إلى تقليدها نفوسهم.
فلو كان ملكا ما فكروا في عمله ، ولا في تقليده ، حيث المفاصلة بينه وبينهم في جنس الطبيعة وطبيعة الجنس ، هذه المفاصلة تعذرهم عن أن يكونوا مثله ، ويمثلوا أمثاله ، وهذه خلاف الرحمة الإلهية ، أنه على قصور الحجة يتطلب منهم سلوك المحجة التي يحملها رسول ليس من جنسهم!.
وعاذرة لهم ثانية لو صدق الرسول البشر ، أنه لا بد له من ميّزة في مال ، حتى يتميز عنا في حال :
(أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها وَقالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلاً مَسْحُوراً)(٨).
لقد خلطوا وتخبطوا في الشروط الآهلة للرسالة ، فخيّل إليهم أنها هي شروط الفرعنة ، حاصرين كافة الأهليات في الحيونات والماديات ، ويكأن الله ناظر إلى رغباتهم في شروطات الرسالات ، فهم الذين يقررونها دونه :
(وَقالُوا لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ ، أَهُمْ يَقْسِمُونَ