السفين ، وصرنا في جوفه كما يصار في لحده الدفين. فأنزلنا رءيسه فيه أحسن منزل ، وجعلنا من محال إقراره ودويه بمعزل. وتلقانا أهله بالبشر والسرور وحسن البشاشة وجميل البرور ، فأدخلونا قمرة (١) فيها زرابي جيدة نقية وفرش رفيعة وطية. وقال لنا لسان حالهم ومقالهم ، كونوا في عيشة هنية وإكرامات سنية ، فنحن معكم على سيرة مرضية. وعندما تتام طلوعنا ورجع من كان يشيعنا ، قلع المركب مخاطفه وهز للمسير أعطافه. فقلنا بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم : (بِسْمِ اللهِ مَجْراها وَمُرْساها إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ)(٢). ثم أطلق مدافع الفرح والبحر لنا بسكونه قد سمح ، فسرنا متوكلين على الحي القيوم ، موقنين بأن لا دافع ولا منجي إلا الله سبحانه : (وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ)(٣). وقال ابن العربي (٤) : «من أراد أن يوقن أن الله هو الفاعل وحده وأن الأسباب ضعيفة ، فليركب البحر». وهو كما قال ويقال : «من ركب البحر فقد خاطر بنفسه ، وأشد منه خطرا من صحب السلطان بغير علم». هو لا شك أن راكب البحر دود على عود ، خلق ضعيف في خلق قوي ، تتلاعب فيه الأمواج فلا أحد من دون الله ينفعه بعلاج (٥). وكانت وجهتنا لمدينة مرسيليا التي هي على ساحل هذا البحر من جهته الشمالية.
__________________
(١) «القمرة» ، أصلها من الإسبانية (c mara) ، والمقصود بها هنا الغرفة المخصصة لإقامة المسافرين على متن المراكب ،. ٤١١ : ٢Dozy
(٢) سورة هود ، الآية ٤١.
(٣) سورة الإسراء ، الآية ٦٧.
(٤) هو محمد ابن العربي من مشاهير رجال التصوف ، أندلسي الأصل ، كانت وفاته في دمشق عام ٦٣٨ ه / ١٢٤٠ م. انظر مادة «ابن العربي» في SEI s.v."Ibn (al) Arabi ".
(٥) غالبا ما تحدث اليونان والرومان عن البحر بنوع من الإعجاب والتمجيد المثاليين ، غير أن العرب ـ على العكس من ذلك ـ غالبا ما تحدثوا عن البحر في كتاباتهم بطريقة لا تخلو من النفور. وقد جاء ضمن إحدى مراسلات عمرو بن العاص إلى الخليفة عمر بن الخطاب في موضوع البحر ما يلي : «إن البحر لخلق عظيم يشبه المطية التى يركب عليها الضعفاء كما تزحف الديدان على فروع الشجر» ، انظر :
At ـ Tabari, Annales, ed. M. J. de Goeje et al.) Leiden, ٩٧٨١ ـ ١٠٩١ (, I : ١٢٨٢, anno ٨٢.) ٨٤٦ ـ ٩٤ (.