قَدَرُوا اللهَ) لما بين شأن القرآن العظيم وأنه نعمة جليلة منه تعالى على كافة الأمم حسبما ينطق به قوله تعالى وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين عقب ذلك ببيان غمطهم إياها وكفرهم بها على وجه سرى ذلك إلى الكفر بجميع الكتب الإلهية وأصل القدر السبر والحزر يقال قدر الشىء يقدره بالضم قدرا إذا سبره وحزره ليعرف مقداره ثم استعمل فى معرفة الشىء فى مقداره وأحواله وأوصافه وقوله تعالى (حَقَّ قَدْرِهِ) نصب على المصدرية وهو فى الأصل صفة للمصدر أى قدره الحق فلما أضيف إلى موصوفة انتصب على ما كان ينتصب عليه موصوفه أى ما عرفوه تعالى حق معرفته فى اللطف بعباده والرحمة عليهم ولم يراعوا حقوقه تعالى فى ذلك بل أخلوا بها إخلالا (إِذْ قالُوا) منكرين لبعثة الرسل وإنزال الكتب* كافرين بنعمته الجليلة فيهما (ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ) فنفى معرفتهم لقدره سبحانه كناية عن حطهم* لقدره الجليل ووصفهم له تعالى بنقيض نعته الجميل كما أن نفى المحبة فى مثل إن الله لا يحب الكافرين كناية عن البغض والسخط وإلا فنفى معرفة قدره تعالى يتحقق مع عدم التعرض لحطه بل مع السعى فى تحصيل المعرفة كما فى قول من يناجى مستقصرا لمعرفته وعبادته سبحانك ما عرفناك حق معرفتك وما عبدناك حق عبادتك أو ما عرفوه حق معرفته فى السخط على الكفار وشدة بطشه تعالى بهم حسبما نطق به القرآن حين اجترءوا على التفوه بهذه العظيمة الشنعاء فالنفى بمعناه الحقيقى والقائلون هم اليهود وقد قالوه مبالغة فى إنكار إنزال القرآن على رسول الله صلىاللهعليهوسلم فألزموا بما لا سبيل لهم إلى إنكاره أصلا حيث قيل (قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى) أى قل لهم ذلك على طريقة التبكيت وإلقام الحجر وروى أن مالك بن الصيف من أحبار اليهود ورؤسائهم قال له رسول الله صلىاللهعليهوسلم أنشدك الله الذى أنزل التوراة على موسى هل تجد فيها أن الله يبغض الحبر السمين فأنت الحبر السمين قد سمنت من مالك الذى تطعمك اليهود فضحك القوم فغضب ثم التفت إلى عمر رضى الله عنه فقال ما أنزل الله على بشر من شىء فنزعوه وجعلوا مكانه كعب بن الأشرف وقيل هم المشركون وإلزامهم إنزال التوراة لما أنه كان عندهم من المشاهير الذائعة ولذلك كانوا يقولون لو أنا أنزل علينا الكتاب لكنا أهدى منهم ووصف الكتاب بالوصول إليهم لزيادة التقريع وتشديد التبكيت وكذا تقييده بقوله تعالى (نُوراً وَهُدىً) فإن كونه بينا* بنفسه ومبينا لغيره مما يؤكد الإلزام أى تأكيد وانتصابهما على الحالية من الكتاب والعامل أنزل أو من الضمير فى به والعامل جاء واللام فى قوله تعالى (لِلنَّاسِ) إما متعلق ب (هُدىً) أو بمحذوف هو صفة* له أى هدى كائنا للناس وليس المراد بهذا مجرد إلزامهم بالاعتراف بإنزال التوراة فقط بل بإنزال القرآن أيضا فإن الاعتراف بإنزالها مستلزم للاعتراف بإنزاله قطعا لما فيها من الشواهد الناطقة به وقد نعى عليهم ما فعلوا بها من التحريف والتغيير حيث قيل (تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ) أى تضعونه فى قراطيس مقطعة* وورقات مفرقة بحذف الجار بناء على تشبيه القراطيس بالظرف المبهم أو تجعلونه نفس القراطيس المقطعة وفيه زيادة توبيخ لهم بسوء صنيعهم كأنهم أخرجوه من جنس الكتاب ونزلوه منزلة القراطيس الخالية عن الكتابة والجملة حال كما سبق وقوله تعالى (تُبْدُونَها) صفة لقراطيس وقوله تعالى (وَتُخْفُونَ كَثِيراً)