(وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ (١٠٢) ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَظَلَمُوا بِها فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ) (١٠٣)
____________________________________
أنهم ما كانوا فى زمن الجاهلية بحيث لم يسمعوا كلمة التوحيد قط بل كانت كل أمة من أولئك الأمم يتسامعون بها من بقايا من قبلهم فيكذبونها ثم كانت حالتهم بعد مجىء رسلهم كحالتهم قبل ذلك كأن لم يبعث إليهم أحد وتخصيص التكذيب وعدم الإيمان بما ذكر من الأصول لظهور حال الباقى بدلالة النص فإنهم حين لم يؤمنوا بما أجمعت عليه كافة الرسل فلأن يؤمنوا بما تفرد به بعضهم أولى وعدم جعل هذا التكذيب مقصودا بالذات لما أن ما عليه يدور فلك العذاب والعقاب هو التكذيب الواقع بعد الدعوة حسبما يعرب عنه قوله تعالى (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) وإنما ذكر ما وقع قبلها بيانا لعراقتهم فى الكفر والتكذيب وعلى كلا التقديرين فالضمائر الثلاثة متوافقة فى المرجع وقيل ضمير كذبوا راجع إلى أسلافهم والمعنى فما كان الأبناء ليؤمنوا بما كذب به الآباء ولا يخفى ما فيه من التعسف وقيل المراد ما كانوا ليؤمنوا لو أحييناهم بعد إهلاكهم ورددناهم إلى دار التكليف بما كذبوا من قبل كقوله تعالى (وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ) وقيل الباء للسببية وما مصدرية أى بسبب تعودهم تكذيب الحق وتمرنهم عليه قبل بعثة الرسل ولا يرد عليه ههنا ما ورد فى سورة يونس من مخالفة الجمهور بجعل ما المصدرية من قبيل الأسماء كما هو رأى* الأخفش وابن السراج ليرجع إليه الضمير فى به (كَذلِكَ) أى مثل ذلك الطبع الشديد المحكم (يَطْبَعُ اللهُ عَلى قُلُوبِ الْكافِرِينَ) أى من المذكورين وغيرهم فلا يكاد يؤثر فيها الآيات والنذر وفيه تحذير للسامعين وإظهار الاسم الجليل بطريق الالتفات لتربية المهابة وإدخال الروعة (وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ) أى أكثر الأمم المذكورين واللام متعلقة بالوجدان كما فى قولك ما وجدت له مالا أى ما صدفت له مالا ولا لقيته* أو بمحذوف وقع حالا من قوله تعالى (مِنْ عَهْدٍ) لأنه فى الأصل صفة للنكرة فلما قدمت عليها انتصبت حالا والأصل ما وجدنا عهدا كائنا لأكثرهم ومن مزيدة للاستغراق أى وما وجدنا لأكثرهم من وفاء عهد فإنهم نقضوا ما عاهدوا الله عليه عند مساس البأساء والضراء قائلين لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين فتخصيص هذا الشأن بأكثرهم ليس لأن بعضهم كانوا يوفون بعهودهم بل لأن بعضهم كانوا لا يعهدون ولا يوفون وقيل المراد بالعهد ما عهد الله تعالى إليهم من الإيمان والتقوى بنصب الآيات وإنزال الحجج وقيل ما عهدوا عند خطاب (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ) فالمراد بأكثرهم كلهم وقيل الضمير للناس* والجملة اعتراض فإن أكثرهم لا يوفون بالعهود بأى معنى كان (وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ) أى أكثر الأمم أى علمناهم كما فى قولك وجدت زيدا ذا حفاظ وقيل الأول أيضا كذلك وإن مخففة من إن وضمير الشأن* محذوف أى إن الشأن وجدناهم (لَفاسِقِينَ) خارجين عن الطاعة ناقضين للعهود وعند الكوفيين أن إن نافية واللام بمعنى إلا أى ما وجدناهم إلا فاسقين (ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى) أى أرسلناه من بعد انقضاء