(وَحَسِبُوا أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تابَ اللهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ) (٧١)
____________________________________
جعل الشرطية صفة لرسلا كما ذهب إليه الجمهور فلا يساعده المقام أصلا ضرورة أن الجملة الخبرية إذا جعلت صفة أو صلة ينسخ ما فيها من الحكم وتجعل عنوانا للموصوف تتمة له فى إثبات أمر آخر له ولذلك يجب أن يكون الوصف معلوم الانتساب إلى الموصوف عند السامع قبل جعله وصفا له ومن ههنا قالوا إن الصفات قبل العلم بها أخبار والأخبار بعد العلم بها أوصاف ولا ريب فى أن ما سيق له النظم إنما هو بيان أنهم جعلوا كل من جاءهم من رسل الله تعالى عرضة للقتل أو التكذيب حسبما يفيده جعلها استئنافا على أبلغ وجه وآكده لا بيان أنه تعالى أرسل إليهم رسلا موصوفين بكون كل منهم كذلك كما هو مقتضى جعلها صفة (وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ) أى حسب بنو إسرائيل أن لا يصيبهم من الله تعالى بما أتوا من الداهية الدهياء والخطة الشنعاء بلاء وعذاب وقرىء لا تكون بالرفع على أن أن هى المخففة من أن واسمها ضمير الشأن المحذوف وأصله أنه لا تكون فتنة وتعليق فعل الحسبان بها وهى للتحقيق لتنزيله* منزلة العلم لكمال قوته وأن بما فى حيزها ساد مسد مفعوليه (فَعَمُوا) عطف على حسبوا والفاء للدلالة على ترتب ما بعدها على ما قبلها أى أمنوا بأس الله تعالى فتمادوا فى فنون الغى والفساد وعموا عن الدين* بعد ما هداهم الرسل إلى معالمه الظاهرة وبينوا لهم مناهجه الواضحة (وَصَمُّوا) عن استماع الحق الذى ألقوه عليهم ولذلك فعلوا بهم ما فعلوا وهذا إشارة إلى المرة الأولى من مرتى إفساد بنى إسرائيل حين خالفوا أحكام التوراة وركبوا المحارم وقتلوا شعياء وقيل حبسوا أرمياء عليهماالسلام لا إلى عبادتهم العجل كما قيل فإنها وإن كانت معصية عظيمة ناشئة عن كمال العمى والصمم لكنها فى عصر موسى عليهالسلام* ولا تعلق لها بما حكى عنهم مما فعلوا بالرسل الذين جاءوهم بعده عليهالسلام بأعصار (ثُمَّ تابَ اللهُ عَلَيْهِمْ) حين تابوا ورجعوا عما كانوا عليه من الفساد بعد ما كانوا ببابل دهرا طويلا تحت قهر بخت نصر أسارى فى غاية الذل والمهابة فوجه الله عزوجل ملكا عظيما من ملوك فارس إلى بيت المقدس ليعمره ونجى بقايا بنى إسرائيل من أسر بخت نصر بعد مهلكة وردهم إلى وطنهم وتراجع من تفرق منهم فى الأكناف فعمروه ثلاثين سنة فكثروا وكانوا كأحسن ما كانوا عليه وقيل لما ورث بهمن ابن اسفنديار الملك من جده كستاسف ألقى الله عزوجل فى قلبه شفقة عليهم فردهم إلى الشام وملك عليهم دانيال عليهالسلام فاستولوا على من كان فيها من أتباع بخت نصر فقامت فيهم الأنبياء فرجعوا إلى أحسن ما كانوا عليه من الحال وذلك قوله تعالى (ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ) وأما ما قيل من أن المراد قبول توبتهم عن عبادة العجل فقد عرفت أن ذلك لا تعلق له بالمقام ولم يسند التوبة إليهم كسائر أحوالهم من الحسبان والعمى والصمم تجافيا عن التصريح بنسبة الخير إليهم وإنما أشير إليها فى ضمن بيان توبته تعالى عليهم تمهيدا لبيان* نقضهم إياها بقوله تعالى (ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا) وهو إشارة إلى المرة الآخرة من مرتى إفسادهم وهو اجتراؤهم على قتل زكريا ويحيى وقصدهم قتل عيسى عليهمالسلام لا إلى طلبهم الرؤية كما قيل لما عرفت سره فإن فنون