بصحة العقل ونشتغل بتأويل النقل. والتأويل عند أهل الكتاب ليس بنادر ولا قليل ، ما عرفت في الأمر الثالث من المقدمة أنهم يؤوّلون الآيات الغير المحصورة الدّالّة على جسمية الله وشكله لأجل الآيتين اللتين مضمونهما مطابق للبرهان العقلي ، وكذلك يؤوّلون الآيات الكثيرة الغير المحصورة الدّالّة على المكان لله تعالى لأجل الآيات القليلة الموافقة للبرهان. وعرفت في الأمر الرابع والخامس أيضا مثله مشروحا. لكن العجب من عقلاء كاتلك ومن تبعهم أنهم تارة يبطلون حكم الحسّ والعقل معا ويحكمون أن الخبز والخمر اللذين حدثا بين أعيننا بعد مدة أزيد من ألف وثمانمائة سنة من عروج المسيح عليهالسلام يتحوّلان في العشاء الربّاني إلى لحمه ودمه حقيقة فيعبدونهما ويسجدون لهما ، وتارة يبطلون حكم العقل والبداهة وينبذون البراهين العقلية وراء ظهورهم ويقولون : التثليث الحقيقي والتوحيد الحقيقي يمكن اجتماعهما في أمر واحد شخصي في زمان واحد من جهة واحدة. والعجب من فرقة بروتستنت أنهم خالفوهم في الأولى دون الثانية. فلو كان العمل على ظاهر النقل ضروريا ، وإن كان مخالفا للحسّ والعقل ، فالإنصاف أن فرقة كاتلك خير من فرقتهم ، لأنها بالغت في إطاعة ظاهر قول المسيح عليهالسلام ، حتى اعترفت بمعبودية ما يصادمه الحسّ والبداهة. وكما ان أهل التثليث يغالون في شأن المسيح عليهالسلام ويوصلونه إلى رتبة الألوهية ، فكذلك يفرطون في شأنه وشأن آبائه فيعتقدون أنه لعن ، وبعد ما مات نزل جهنم ، وأقام فيها ثلاثة أيام ، كما ستعرف ، وأن داود وسليمان عليهماالسلام وكذا الآباء الآخرون للمسيح عليهالسلام في أولاد فارض الذي ولدته تامار بالزنا من يهوذا ، وأن داود عليهالسلام زنى بامرأة أوريا ، وأن سليمان عليهالسلام ارتدّ في آخر عمره ، كما عرفت. وكان سيل من العلماء المسيحية ، وكان قد حصل بعض العلوم الإسلامية أيضا ، وكان ترجم القرآن المجيد بلسانه وترجمته مقولة عند المسيحيين ، وصّى قومه في بعض الأمور. وأنقل وصيّته عن ترجمته المطبوعة سنة ١٨٣٦ من الميلاد : «الأول لا يقع الجبر منكم على المسلمين. والثاني لا تعلّموهم المسائل التي هي مخالفة للعقل لأنهم ليسوا حمقاء نغلب عليهم في هذه المسائل كعبادة الصّنم والعشاء الربّاني لأنهم يعثرون كثيرا من هذا المسائل ، وكل كنيسة فيها هذه المسائل لا تقدر أن تجذبهم إلى نفسها». انتهى. فانظر كيف وصّى وأظهر أن مثل عبادة الصنم ومسألة العشاء الربّاني مخالفة للعقل والإنصاف. إن أهل هذه المسائل مشركون يقينا هداهم الله إلى الصراط المستقيم.
تمّ الجزء الأول ويليه الجزء الثاني
وأوله الفصل الثاني في إبطال التثليث