في العشاء الربّاني بشهادة الحسّ ، وتستهزئ بها. فهذا الردّ والهزء يرجعان إليهما أيضا. لأن الذي رأى المسيح ما رأى منه إلّا شخصا واحدا إنسانيا ، وتكذيب أصدق الحواسّ الذي هو البصر يفتح باب السفسطة في الضروريات. فيكون القول به باطلا كالقول بالاستحالة. والجهلاء من المسيحيين من أيّة فرقة من فرق أهل التثليث كانوا قد ضلّوا في هذه العقيدة ضلالا بيّنا ، ولا يميّزون بين الجوهر اللّاهوتي والناسوتي ، كما يميز بحسب الظاهر علماؤهم ، بل يعتقدون ألوهية المسيح عليهالسلام باعتبار الجوهر الناسوتي ، ويخبطون خبطا عظيما. نقل أنه تنصّر ثلاثة أشخاص وعلّمهم بعض القسّيسين العقائد الضرورية سيما عقيدة التثليث أيضا ، وكانوا في خدمته فجاء محبّ من أحبّاء هذا القسّيس وسأله عمّن تنصّر ، فقال ثلاثة أشخاص تنصّروا ، فسأل هذا المحبّ هل تعلّموا شيئا من العقائد الضرورية؟ فقال : نعم. وطلب واحدا منهم ليرى محبّه. فسأله عن عقيدة التثليث. فقال : إنك علّمتني أن الآلهة ثلاثة أحدهم الذي هو في السماء ، والثاني تولّد من بطن مريم العذراء ، والثالث الذي نزل في صورة الحمام على الإله الثاني بعد ما صار ابن ثلاثين سنة. فغضب القسّيس وطرده. وقال : هذا مجهول. ثم طلب الآخر منهم وسأله. فقال : إنك علّمتني أن الآلهة كانوا ثلاثة وصلب واحد منهم ، فالباقي إلهان. فغضب عليه القسّيس أيضا وطرده. ثم طلب الثالث وكان ذكيّا بالنسبة إلى الأوّلين وحريصا في حفظ العقائد ، فسأله فقال : يا مولاي حفظت ما علّمتني حفظا جيدا وفهمت فهما كاملا بفضل الربّ المسيح أن الواحد ثلاثة والثلاثة واحد ، وصلب واحد منهم ومات ، فمات الكلّ لأجل الاتّحاد ، ولا إله الآن وإلّا يلزم نفي الاتّحاد. وأقول : لا تقصير للمسئولين فإن هذه العقيدة يخبط فيها الجهلاء هكذا ، ويتحيّر علماؤهم ويعترفون بأنّا نعتقد ولا نفهم ويعجزون عن تصويرها وبيانها. ولذا قال الفخر الرازي في تفسيره سورة النساء : «واعلم أن مذهب النصارى مجهول جدا». ثم قال : «لا نرى مذهبا في الدنيا أشدّ ركاكة وبعدا من العقل من مذهب النصارى». وقال في تفسير سورة المائدة : «ولا نرى في الدنيا مقالة أشدّ فسادا وأظهر بطلانا من مقالة النصارى». فإذا علمت بالبراهين العقلية القطعية أن التثليث الحقيقي ممتنع في ذات الله ، فلو وجد قول من الأقوال المسيحية دالّا بحسب الظاهر على التثليث يجب تأويله ، لأنه يخلو إما أن نعمل بكل واحد من دلالة البراهين ودلالة القول ، وإما أن نتركهما ، وإما أن نرجّح النقل على العقل ، وإما أن نرجّح العقل على النقل. والأول باطل قطعا ولا يلزم كون الشيء الواحد ممتنعا وغير ممتنع في نفس الأمر. والثاني أيضا محال وإلّا يلزم ارتفاع النقيضين. والثالث أيضا لا يجوز لأن العقل أصل النقل ، فإن ثبوت النقل موقوف على ثبوت وجود الصانع وعلمه وقدرته وكونه مرسلا للرّسل وثبوتها بالدلائل العقلية ، فالقدح في العقد قدح في العقل والنقل معا. فلم يبق إلّا أن نقطع