موضع من مواضع القرآن كله دليل على كمال بلاغته وفصاحته الخارجتين عن العادة.
عاشرها : أنه مشتمل على جميع فنون البلاغة ، من ضروب التأكيد وأنواع التشبيه والتمثيل وأصناف الاستعارة ، وحسن المطالع والمقاطع وحسن الفواصل ، والتقديم والتأخير والفصل والوصل اللائق بالمقام ، وخلوه عن اللفظ الركيك والشاذ الخارج عن القياس النافر عن الاستعمال ، وغير ذلك من أنواع البلاغات. ولا يقدر أحد من البلغاء الكملاء من العرب العرباء إلّا على نوع أو نوعين من الأنواع المذكورة. ولو رام غيره في كلامه لم يتأتّ له وكان مقصرا. والقرآن محتو عليها كلها. فتلك عشرة كاملة ، وهذه الوجوه العشرة تدلّ على أن القرآن في الدرجة العالية من البلاغة الخارجة عن العادة يعرفه فصحاء العرب بسليقتهم وعلماء الفرق بمهارتهم في فن البيان وإحاطتهم بأساليب الكلام ، ومن كان أعرف بلغة العرب وفنون بلاغتها كان أعرف بإعجاز القرآن.
الأمر الثاني : (١) تأليفه العجيب وأسلوبه الغريب في المطالع والمقاطع والفواصل ، مع اشتماله على دقائق البيان وحقائق العرفان وحسن العبارة ولطف الإشارة وسلاسة التركيب وسلامة الترتيب ، فتحيرت فيه عقول العرب العرباء وفهوم الفصحاء ، والحكمة في هذه المخالفة أن لا يبقى لمتعسف عنيد مظنة السرقة. ويمتاز هذا الكلام عن كلامهم ويظهر تفوقه ، لأن البليغ ، ناظما كان أو ناثرا ، يجتهد في هذه المواضع اجتهادا كاملا ويمدح ويعاب عليه غالبا في هذه المواضع ، كما عيب على مطلع امرئ القيس :
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل |
|
بسقط اللوى بين الدخول فحومل |
بأن صدر البيت جمع بين عذوبة اللفظ وسهولة السبك وكثرة المعاني ، فإنه وقف واستوقف وبكى واستبكى وذكر الحبيب والمنزل ، وأن الشطر الثاني لا يوجد فيه شيء من ذلك. وعيب على مطلع أبي النجم الشاعر المشهور ، فإنه دخل على هشام بن عبد الملك فأنشده :
صفراء قد كدت ولما تفعل |
|
كأنها في أفق عين الأحول |
وكان هشام أحول. فأخرجه وأمر بحبسه. وعيب على مطلع جرير ، فإنه دخل على عبد الملك وقد مدحه بقصيدة حائية أولها :
أتصحو أم فؤادك غير صاح
__________________
(١) عودة إلى بداية «الأمر الأول» من الفصل الأول من الباب الخامس ، تدرك الأمر السابق لهذا الأمر.