فقال له عبد الملك : فؤادك يا ابن الفاعلة. وعيب على مطلع البحتري ، فإنه أنشد يوسف بن محمد قصيدته التي مطلعها :
لك الويل من ليل تقاصر آخره
فقال : بل لك الويل والخزي. وعيب على مطلع إسحاق الموصلي الأديب الحاذق ، فإنه دخل على المعتصم وقد فرغ من بناء قصره بالميدان وأنشده قصيدته التي مطلعها :
يا دار غيّرك البلى ومحاك |
|
يا ليت شعري ما الذي أبلاك |
فتطير المعتصم من هذا المطلع وأمر بهدم القصر على الفور.
وهكذا قد خطئ أكثر الشعراء المشهورين في المواضع المذكورة. وأشراف العرب ، مع كمال حذاقتهم في أسرار الكلام وشدّة عداوتهم للإسلام ، لم يجدوا في بلاغة القرآن وحسن نظمه وأسلوبه مجالا ، ولم يوردوا في القدح مقالا ، بل اعترفوا أنه ليس من جنس خطب الخطباء وشعر الشعراء ، ونسبوه تارة إلى السحر تعجبا من فصاحته وحسن نظمه ، وقالوا تارة إنه إفك افتراه وأساطير الأولين ، وقالوا تارة لأصحابهم وأحبابهم لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلّكم تغلبون. وهذه كلها دأب المحجوج المبهوت. فثبت أن القرآن معجز ببلاغته وفصاحته وحسن نظمه. وكيف يتصور أن يكون الفصحاء والبلغاء من العرب العرباء كثيرين كثرة رمال الدهناء وحصى البطحاء ، ومشهورين بغاية العصبية والحمية والجاهلية وتهالكهم على المباراة والمباهاة والدفاع عن الاحساب ، فيتركون الأمر الأسهل الذي هو الاتيان بمقدار أقصر سورة ، ويختارون الأشد الأصعب مثل الجلاء وبذل المهج والأرواح ، ويبتلون بسبي الذراري ونهب الأموال ، ومخالفهم المتحدي يقرعهم إلى مدة على رءوس الملأ بأمثال هذه الأقوال : (فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) [يونس : ٣٨]. (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ) [البقرة : ٢٣ ـ ٢٤] (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً)) [الإسراء : ٨٨] ولو كانوا يظنون أن محمدا صلىاللهعليهوسلم استعان بغيره لأمكنهم أيضا أن يستعينوا بغيرهم لأنه كأولئك المنكرين في معرفة اللغة وفي المكنة من الاستعانة. فلما لم يفعلوا ذلك ، وآثروا المقارعة على المعارضة والمقاتلة على المقاولة ، ثبت أن بلاغة القرآن كانت مسلمة عندهم ، وكانوا عاجزين عن المعارضة.