غاية الأمر أنهم صاروا مفترقين بين مصدق به وبمن أنزل عليه وبين متحير في بديع بلاغته. روي أنه سمع الوليد بن المغيرة من النبيّ صلىاللهعليهوسلم أن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلّكم تذكرون. فقال : والله إن له لحلاوة ، وإن عليه لطلاوة ، وإن أسفله لمغدق ، وإن أعلاه لمثمر ، ما يقول هذا بشر. وروي أيضا أنه لما سمع القرآن رق قلبه فجاءه أبو جهل ـ وكان ابن أخيه ـ منكرا عليه ، قال : والله ما منكم أحدا أعلم بالأشعار مني. والله ما يشبه الذي يقول شيئا من هذا. وروي أيضا أنه جمع قريشا عند حضور الموسم وقال : إن وفود العرب ترد العرب ، فأجمعوا فيه رأيا لا يكذب بعضكم بعضا. قالوا : تقول كاهن. قال : والله ما هو بكاهن بزمزمته ولا سجعه. قالوا : مجنون. قال : ما هو بمجنون ولا بحنقه ولا وسوسته. قالوا : فنقول شاعر. قال : ما هو بشاعر ، قد عرفنا الشعر كله رجزه وهزجه وقريضه ومبسوطه ومقبوضه. قالوا : فنقول ساحر. قال ما هو بساحر ولا نفثه ولا عقده. قالوا : فما تقول؟ قال : ما أنتم بقائلين شيئا من هذا إلا وأنا أعرف أنه باطل ، وأن أقرب القول أنه ساحر. ثم قال : فإنه سحر يفرق به بين المرء وابنه ، والمرء وأخيه ، والمرء وزوجه ، والمرء وعشيرته. فتفرقوا وجلسوا على السبل يحذرون الناس عن متابعة النبيّ صلىاللهعليهوسلم. فأنزل الله تعالى في الوليد : (ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً) [المدّثر : ١١]. وروي أن عتبة كلم النبيّ صلىاللهعليهوسلم فيما جاء به من خلاف قومه ، فتلا عليه : (حم تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ كِتابٌ فُصِّلَتْ) إلى قوله : (أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ) [فصّلت : ١ ـ ١٣] فأمسك عتبة بيده على فيه وناشده الرحم أن يكف. وفي رواية : فجعل النبيّ صلىاللهعليهوسلم يقرأ ، وعتبة مصغ ملق بيديه خلف ظهره معتمد عليهما حتى انتهى إلى السجدة ، فسجد النبيّ صلىاللهعليهوسلم ، وقام عتبة لا يدري بما يراجعه. ويرجع إلى أهله ولم يخرج إلى قومه حتى أتوه. فاعتذر لهم ، وقال : والله لقد كلمني بكلام ما سمعت أذناي بمثله قط ، فما دريت ما أقول له. وذكر أبو عبيدة أن أعرابيا سمع رجلا يقرأ (فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ) [الحجر : ٩٤]. فسجد ، وقال سجدت لفصاحته. وسمع رجل آخر من المشركين رجلا من المسلمين يقرأ (فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا) [يوسف : ٨٠] فقال : أشهد أن مخلوقا لا يقدر على مثل هذا الكلام. وحكى الأصمعي أنه سمع جارية تتكلم بعبارة فصيحة وإشارة بليغة ، وهي خماسية أو سداسية ، وهي تقول أستغفر الله من ذنوبي كلها. فقال لها : ممّ تستغفرين ولم يجر عليك قلم؟ فقالت :
أستغفر الله لذنبي كله |
|
قتلت إنسانا بغير حله |
مثل غزال ناعم في دله |
|
انتصف الليل ولم أصله |